نقول جهاراً بضرورة التخلّص منه. نتبجّح بأنّنا حسمنا أمرنا هذه المرّة، وبأنّ لا مجال للتراجع. ولأنّنا جازمون، نحثّ مَن حولنا على إسقاطه من حساباتهم، مؤكّدين دعمنا لهم بطريقة أو بأخرى. فالأمر ليس سهلاً بسيطاً ويستوجب مساندة. هو ليس في متناولنا جميعاً. في الواقع، يبدو أنّه ليس في متناول أيّ منّا، وإنّ تبجّح بعض منّا بغير ذلك. يبدو من المستحيل التخلّي عنه، فنحن نجرجر بعضاً منه. ونمضي نجرجر تفاصيل أو أخرى لا تنفكّ ترهقنا.
الأمس يأبى أن يعتقنا. مهلاً، دعونا ولو لمرّة واحدة نتحمّل مسؤوليّاتنا. ألسنا نحن من يصرّ على استعادة ذلك الأمس من خلال بعض الذكريات. قد نقول إنّها سعيدة، غير أنّها من ذلك الأمس الذي ندّعي رغبتنا لا بل عزمنا على التخلّي عنه. الانتقائيّة هنا ليست خياراً. غربلة تفاصيل الأمس ولحظاته ليست مهمّة سهلة بسيطة. ونحن نسترجع لحظات أبهجتنا في يوم، لا بدّ من أن يتسرّب واحد من منغّصات كثيرة اختلفت طبيعتها، سبقت وكدّرت ذاك اليوم أو يوماً آخر. قد يتسرّب ليكدّر يومنا هذا.
منافقون نحن. ندّعي أنّنا حسمنا أمرنا، بيد أنّنا لم ولن نفعل. كفانا رياءٌ وإن غير واعٍ، ولنقرّ لمرّة واحدة بأنّنا عاجزون عن ذلك. فلنقرّ بأنّنا نستسيغ - بطريقة أو بأخرى - استرجاع ذلك الأمس أو قل بعضاً من تفاصيله، حتى لا يُحكى عن مبالغة هنا. فلنقرّ بذلك. لا ضير في ذلك. ذلك الإقرار قد يخفّف من وقع تفاصيل مغمّة. وهنا، ملاحظة على الهامش. النفاق يكثر مِن حولنا في أكثر من نطاق، ونعجز عن مقاومته. مهلاً، دعونا لا نبالغ. ثمّة من لم يغرق في النفاق السائد.
قبل أيّام، نشر فنّان يابانيّ يطلق على نفسه اسم "أفوغادو 6" رسومات تترجم بعضاً ممّا قد نشعر به في يوميّاتنا. هو نجح في نقل أحاسيس وتخبّطات وأسى من خلال صور غير متكلّفة بمعظمها، غير أنّ بعضها قاس أليم. ربّما يشعر الواحد منّا بقساوتها، إذ تمسّه في صميمه. في إحدى رسوماته، كانت فتاة تضع كتلة أشبه برجل ثلج في الطبقة الخاصة بالتجميد في ثلاجة منزلها. ونقرأ: "عندما تحاول حفظ ما يجب إبقاؤه في الماضي". هذه الرسمة لا تشبه تلك القاسية التي تترافق بعبارة "عندما تحاول جمع نفسك قطعة قطعة"، ولا تلك التي كُتِب أسفلها "عندما يعجز جناحاك عن حملك"، ولا تلك المعرّفة بكلمتَين اثنتَين "مجهَد. مستنفَد"، بيد أنّها تَخزنا ولا شكّ.
وخز. ويعود الأمس على شكل وخز يطاول ذواتنا وأرواحنا، فيخلّف فيها ندوباً ومزيداً من الندوب. لطالما قيل لنا ونحن صغار: "لا تقلقوا. هذه مجرّد وخزة إبرة". صدّقنا تلك الأقوال، واحتملنا بعضاً من الوخز. اليوم، نصطبر على كلّ ذلك الوخز الذي يطاولنا. ألم نفعل ونحن صغار؟ ألم نفعل في الأمس؟