تالة.. مسرح انتفاضات تونس العنيد

22 أكتوبر 2014
عُرفت تالة بتحركاتها الانتفاضية منذ "تكفاريناس ويوغرطة" (أ.ف.ب)
+ الخط -

لبعض المدن قصص مع الثورات والانتفاضات الشعبية، ولبعض المدن حظوة مميزة في ذاكرة الشعوب، لحدث أو فكرة، أو زاوية فيها أو صورة، وتالة التونسية إحدى هذه المدن الموصوفة.

تالة، التي لم تنصفها الطبيعة ولا البشر، ولا حتى التاريخ، عُرفت بتحركاتها الانتفاضية، التي لم تهدأ على امتداد التاريخ التونسي الطويل، بدءاً بـ"تكفاريناس ويوغرطة" خلال العهد الروماني، ووصولا إلى انتفاضة الفلاحين ضد المستعمر الفرنسي سنة 1906، وإلى ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، ضد نظام الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي.

تقع مدينة تالة في محافظة القصرين، في الوسط الغربي التونسي، وتقدر مساحتها بحوالى سبعمائة واثنين وخمسين كيلومتراً مربعاً، وحيث تعتبر القصرين المحافظة، التي قدمت أكبر عدد من الشهداء مقارنة بجهات البلاد الأخرى خلال ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 المجيدة. تعد تالة مثالا بارزا للتناقض الجلي بين قطبين في البلاد التونسية: قطب تونس الساحلية، الذي يمثل معقل رجال السلطة والجاه والحكم، وقطب تونس الأعماق، غير المحظوظ والمركون على هامش الحياة ومسيرة التاريخ. وتالة "المشاغبة جدا" كانت ولا تزال جزءا من تونس الأعماق المنسية الهامشية، تنتفض بين حين وآخر، مذكرة حكام البلاد، منبهة إيّاهم، أملا في أن يعيروها شيئاً من الاهتمام.

شموخ أهل مدينة تالة مستمد من طبائع مدينتهم وسحنتها، فهي أعلى مدن البلاد التونسية عن سطح البحر، إذ ترتفع ألفاً وسبعة عشر متراً عن سطح الماء، غير أن هذا المعطى الجغرافي لم يساعدهم، ولم يكن عوناً لهم، فطالما مثل ارتفاع المدينة عائقا أمام عيش أهلها، نظرا لكثرة الجبال المحيطة بها، ومحدودية المناطق المنخفضة السهلية الصالحة للزراعة، كما برع مناخها القاري القارس شتاءً، والحار الجاف صيفاً، في أن يكون عامل تنفير للساكنة منها.

ليست لهذه الجهة الفقيرة سمات جغرافية أو تاريخية بارزة، أو يحتفى بها رسمياً، أو حتى في الذاكرة الجمعية، عدا بعض الأطلال الرومانية الجميلة، حيث كانت قصور ومعابد في زمن خلا، كما لم تكن يوما محل اهتمام رجال الحكم ومؤسسات الدولة وبرامجها، على اختلاف الحقبات والأسماء وتتابعها، لكن سلاح أهلها كان دائما في خيار أن ينتفضوا في كل مرة لانتشالها من حالة النسيان والتهميش، التي ظلت تلفّها لسنين.

بحثاً عن الإنصاف، انتفضت تالة في ربيع سنة 1906، ويشهد لها بأن هذه الهبة كانت أول انتفاضة شعبية مناهضة للاستعمار الفرنسي، المسيطر على البلاد منذ عام 1881، وسميت آنذاك بـ"انتفاضة الفلاحين"، التي انتقل خلالها أهالي الجهة من حالة الخضوع السلبي للمستعمر إلى التمرد المسلح ضده، والرافض وجوده، انطلاقاً من معطيات وطنية جامعة، تتعلق برفض وجود المستعمر على أرض تونس، وليس فقط في ناحيتهم.

ومنذ نهاية ديسمبر/كانون الأول سنة 2010، لعبت تالة دوراً ريادياً في مسار الثورة التونسية. وكان يوم الثامن من يناير/كانون الثاني 2011، يوماً فارقاً في تاريخ ثورة الياسمين التونسية، حيث خرج أهالي تالة بشعاراتهم المناهضة للنظام المخلوع، ينادون بالحرية والعمل والخبز والكرامة. لكن رصاص الأمن كان في انتظارهم. حوصرت المدينة لأيام طويلة، وبات مصدر المعلومة الوحيد من داخلها بعض النشطاء والنقابيين، الذين كانوا على تواصل مع وكالات الأنباء الأجنبية والقنوات الإخبارية العالمية.

مثّل حصار مدينة تالة أثناء الثورة التونسية دافعا لتحرك مدن أخرى مجاورة للتضامن مع سكانها. ودفعت المدينة ضريبة ذلك سقوط 6 من أبنائها، وجرح العشرات برصاص الأمن التونسي.

انتصرت الثورة في تونس، وغادر الرئيس الهارب ونظامه. وظلت المدينة عصيّة على قوات الأمن ورموز النظام السابق أشهراً طويلة.

لكنّ حال "مسرح الانتفاضات وأرض النضال" لم تشهد تغييرا بعد انتصار الثورة، حسب الرأي السائد بين سكانها، وكأنما كُتب عليها أن يسطر أهلها صفحات رائعة في مجال النضال ضد الاضطهاد، دون نتيجة ملموسة تنهض بالمدينة وأهلها.

تالة أو "وطن قبيلة الفراشيش"، كما تلقب في الذاكرة الشعبية، يئن سكانها تحت وطأة الفقر، تماما كما تئن المدينة تحت وطأة الصمت والخذلان، رغم ما قدمته من نضال ضد المستعمر والحاكم الظالم، لكنّ لسان حالها يقول من اختار النضال منهجا لعقود، لن يعرف اليأس يوماً.

المساهمون