تاكسي أبو سعيد

01 يونيو 2015
هل بإمكاننا القيام بجولة أخرى يا عم؟ (حسين بيضون)
+ الخط -

نفث دخان سيجارته وقال للراكب، بإنجليزية مكسّرة، إن "الزبون دائماً على حق". اللازمة التجارية نفسها التي تقول إن البائع مضطر دائماً لإرضاء الزبون بعيداً عن أي اعتبارات أخرى.

رنّ الهاتف الخلوي فتناوله من قرب كوب القهوة. نطق هذه المرّة بفرنسية متمكّنة: "وي مسيو وليد" (نعم سيد وليد). ثم تابع شارحاً للمتّصل عنواناً في منطقة رأس بيروت، يقع "قرب سجن القلعة" الذي لم يعد موجوداً إلا في ذاكرته العجوز.

يبدأ السائق بالحديث عن حياته، من دون أن يسأله أحد، على عادة سائقي الأجرة في بيروت. يقول: "طلبت من أم سعيد (زوجته) أن تربّيهم وتهتمّ بهم من دون أن تدلّلهم، كي يصيروا رجالاً أشدّاء. لكنها لم تسمع مني. عندما جئت إلى المدينة لم أكن أملك شيئاً، لكنني عملت بنشاط وادّخرت. ودفعت من تعبي أوّل قسط لشقة في منطقة تلّة الخياط".

يتابع صاحب العينين الزرقاوين والقبعة القطنية: "لقد دلَّلَتهم. أنت تعرف الأمّهات. يربّين الأولاد بعاطفتهن. كنت أقول لها صحّيه في الصباح ليذهب إلى السوق ويشتري الخضار. عليه أن يتعلّم شراء الخضار. إن لم يحسن ذلك لن يتمكّن من تأسيس منزل وعائلة. النوم الكثير يضرّه ولا يفيده. لا يمكنه الاعتماد على والديه مدى الحياة. لكنها لم تسمع مني".

يعود لإشعال سيجارة أخرى، قبل أن يُكمل: "التدخين مضرّ لكنني تعوّدته. لا أدخّن أكثر من علبة واحدة في اليوم ولا أعزم عليه، فلا تستغرِب. أدخّنها لأتسلّى خلال النهار. ولا أسمع الأخبار إلا نادراً. أفتح الراديو لأسمع عبد الوهاب. الأخبار أكثر ضرراً من الدخّان. سافر ابني البكر إلى أستراليا قبل سنوات. لم أكن راضياً، لكن الأوضاع السياسية كانت محتدّة. خفتُ أن ينضمّ للأحزاب فشجّعته على خطوته. عندما تزوّج من أجنبية قلت لأم سعيد: لقد خَسِرنا الصبي. أن يتزوّج ابنك في الغربة يعني أنّكَ خسرته للأبد. لكن لم يكن باليد حيلة. فارتضينا، أنا وأمّه، قدرنا".

يصعد راكب آخر في السيارة. يسأل عن إمكانية عدم وضع حزام الأمان، فينطلق لسان أبو سعيد من جديد: "الأمان لا يكون بحزام تضعه على صدرك يا ابني. عندما تأتي ساعتك، ستموت. لن يحميك الحزام. الأمان هو أن تضع رأسك مرتاحاً على المخدّة في المساء، وأن تعرف أن شيبتك لن تهان إذا دخلت المستشفى. الأمان هو أن تصحو في الصباح وأنت ممتلئ بالأمل". ثم تابع ممازحاً بعدما شعر أنه يلقي محاضرة: "ستظلّ أم سعيد حزام أماني الوحيد في هذه الحياة. لا تفكّرا كثيراً وحاولا أن تعيشا حياتكما. تفضّل أستاذ، لقد وصلنا".

- هل بإمكاننا القيام بجولة أخرى يا عم؟
دلالات
المساهمون