بين ربيع العرب وصيف الأتراك

28 يوليو 2016
وحده العلم التركي حاضراً في المشهد (Getty)
+ الخط -
لم يكن لأحد أن يتوقع يوم 15 يوليو/تموز المنصرم أن يتصدّر خبر "انقلاب عسكري في تركيا" عواجل القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية الإخبارية في العالم. ففي ذاك اليوم تحديداً كانت الحركة بدأت تعود إلى طبيعتها نسبياً في شارع الاستقلال الشهير في إسطنبول، الذي تعوّد في السنوات السابقة على استقبال ما يزيد عن الثلاثة ملايين زائر سنوياً، فالتفجيرات التي شهدتها تركيا في الشهور الماضية، كان لها تأثير ملحوظ على حركة السياحة التي تراجعت.

أقفلت المحال التجارية وهرع سكان المدينة إلى منازلهم وزائروها إلى فنادقهم، حاملين ما استطاعوا من قناني الماء التي اشتروها في طريق العودة. بينما كانت طائرات من نوع "أف 16" تخترق جدار الصوت فوق المدينة على علو منخفض فنخالهُ برميلاً سقط فوق حلب، أو تفجيراً جديداً في حي الكرادة في بغداد.


لقد تسبّب هذا الصوت المترافق مع رشقات متفرقة من الرصاص بحالة هلع لدى الأتراك الذين لم يألفوا هذا الوضع، ولدينا نحن الوافدين العرب إلى إسطنبول الذين يمتلك معظمنا ذاكرة صوتية مكثّفة بالفجائع التي صنعتها الحروب وأسلحتها.

الانقلابيون يقطعون جسر البوسفور، الانقلابيون يحتلون المطار، الانقلابيون يحاصرون المباني الحكومية في العاصمة أنقرة.. أخبار كانت توجّه تفكيرنا نحو سؤال واحد: ثلاثة ملايين عربي بين لاجئ ومهاجر، أين سيكونون غداً صباحاً؟

خرج رئيس الدولة التركية، رجب طيب أردوغان، مستخدماً "السوشال ميديا" التي كان يحظرها هو ذاته عند الأزمات وعبر إعلام معارض، مخاطباً الشعب التركي وطالباً منه النزول إلى الشوارع للدفاع عن الديمقراطية، هذه العبارة التي تحرّك لدينا نحن جيل "الربيع العربي" شيئاً من السخرية بعدما وصلنا إليه من واقع مأساوي باسمها، نحنُ -الجيل- الذي يقترن في ذهنه اليوم مفهوم "الوطن" بالرئيس والزعيم والملك، فأصبح عدم إيماننا بالوطن ما هو إلا إسقاط لحقدنا على الحاكم باسم الدين أو الاستخبارات، والذي لا نستطيع "غالباً" التعبير عنه، فنفضّل الانسحاب ونصنع لنا أوطاناً جديدة حيثما تطأُ أقدامنا بلاداً تمنحنا الشعور بإنسانيتنا وحقوقنا.

كنا شبه متأكدين بداية، أنّ الأتراك لن يستجيبوا لنداء رئيس البلاد، ثم اعتقدنا لاحقاً أن أنصار حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه الرئيس"أردوغان" قد يتحركون جزئياً في مناطق تمركزه، لكن لنعترف، لقد فاجأنا الشعب التركي بل وفاجأ العالم، فما هي إلا نصف ساعة وبدأت الحشود الشعبية بمحاصرة الانقلابيين في مطار أتاتورك الدولي ودحرهم، ثم توالت بيانات رفض الانقلاب والدعوة إلى التحرك الشعبي من الأحزاب المعارضة لحكومة أردوغان.

ساعاتٌ قليلة وفشل الانقلاب بفضل الشعب التركي. كنا بحالة انبهارٍ ننظرُ إلى الساحات التي غصّت بالملايين على مدى الأيام التي تلت محاولة الانقلاب. وحده العلم التركي يحضرُ في المشهد، لا أعلام حزبية ولا صور زعماء، أقلهُ في الأيام الثلاثة الأولى.

تراوحت مشاعر معظمنا بين الإعجاب بالشعب التركي الذي تعلّم الدرس جيّداً من تجربة عام 1980، حيث قام الجيش بقيادة الجنرال "كنعان إيفرين" بانقلاب عسكري كانت نتيجته اعتقال 650000 مواطن، وإعدام 50 آخرين، ووفاة 299 شخصاً تحت التعذيب، ونفي الآلاف خارج البلاد. أمّا الشعور الآخر فهو اليأس من أنفسنا وبلادنا - نحن الذين لم نستطع - تحسين واقعنا فطرقنا جهات الأرض الأربع علّنا نجد في تلك البلدان بعضاً من امتيازات "الإنسان" البديهية.

نحن الذين تحوّلنا من ثوار إلى مليشيات تقتل بعضها بعضاً في ليبيا بمباركة الناتو، نحن الذين أسقطنا نظاماً فاسداً في مصر، ورضينا بعدها بانقلاب الجنرالات وحكم العسكر، نحن الذين لم يعد طموحنا في لبنان قانون انتخاب عصرياً، أو أن نرى "رئيساً" للجمهورية في سدّة الحكم، بل إن نرفع النفايات من شوارع بيروت، هذه النفايات التي ورثناها عن طبقة سياسية فاسدة وطائفية، يرفضُ معظمنا المساس برموزها بحجة معركة وجوديّة لأجل المذهب أو خطر التغيير الديموغرافي.

نحن الذين أعدنا انتخاب حاكم قمعي منتهي الأهلية في الجزائر خوفاً من رجال استخباراته، نحن الذين نخشى حكامنا حد الجلد أو النفي أو السجن المؤبّد أو الموت، نحن الذين لم نعد بحاجة لغريب يقتلنا في العراق، فها نحن نفجّر بعضنا بعضاً على امتداد الخريطة، نحن الذين صمتنا عن أعلى نسبة جريمة شرف في الأردن باسم العشيرة والعادات، نحن الذين أسقطنا بن علي في تونس ثم صرنا المصدّر الأول عالمياً للإرهابيين إلى ربوع دولة البغدادي المجرمة، نحن الذين نموت كل يوم مئات المرات في سورية، والعالم يتفرّج بصمت وإذ نطق فمدافعاً عن دولة حزب البعث العميقة "العلمانية".

نحن كل هؤلاء المخفقين والمحبطين، وضعنا الشعب التركي بنضجه السياسي وتمسّكه بصناديق الاقتراع كوسيلة محاسبة وتداول سلطة وترسيخ الحريات والحقوق، وضعنا أمام حقيقة كان يجب أن يدركها قبلنا أهلنا منذ أربعة عقود: لمواجهة الاستبداد بمختلف أشكاله لا بدّ من الشارع، ولامتلاك الشارع لا بدّ من رفض حكم العسكر.


(لبنان)

المساهمون