بيكاسو.. مديح الزوجة الأولى

20 يوليو 2017
(مقطع من لوحة "أولغا على كرسي"، 1917)
+ الخط -
في شباط/ فبراير 1917 كان الرسام الإسباني بابلو بيكاسو (1881-1973)، يشقّ طريقه نحو الشهرة في العاصمة الفرنسية باريس، التي كانت آنذاك قبلة وملاذاً للكتّاب والفنانين من مختلف أنحاء العالم، ومختبراً يغلي بالتجارب الأدبية والفنية الجديدة.

قام بيكاسو وقتها بزيارة إلى روما، رفقة صديقه الكاتب الفرنسي جان كوكتو، لمشاهدة عروض الباليه الروسي بدعوة من مدير الفرقة سيرج دو دياغليف، الذي كان يرغب في أن يقوم الرسام الإسباني بتصميم ديكور وملابس العرض الذي ستؤديه الفرقة لاحقاً في باريس.

هناك سيُغرم بيكاسو من أول نظرة بإحدى نجمات الفرقة، الراقصة أولغا كوكلوفا، التي كانت تصغره بعشر سنوات، وتنحدر من عائلة أرستقراطية روسية شرّدتها لاحقاً الثورة البلشفية.

بقية هذه القصة باتت مشهورةً ومتداولةً في أحاديث الصالونات الفنية والأدبية، في باريس ما بين الحربين: قصة الفنان الإسباني الصاعد والراقصة الروسية الساحرة، التي لم تقبل بأي نوع من العلاقة قبل الزواج. وفي 12 تموز/ يوليو 1918، سيعقد بيكاسو قرانه رسمياً على أولغا، بحضور غيوم أبولينير وجان كوكتو وماكس جاكوب، في الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية بباريس.

وفي العام الموالي توقفت أولغا عن مزاولة مهنة الرقص، لتتفرغ إلى الحياة الزوجية، وفي 4 شباط/ فبراير 1921 أنجبت بول، الثمرة الوحيدة لهذا الزواج، الذي انهار بعد بضع سنوات من الحب الجارف، حينما وقع بيكاسو في غرام شابة تدعى ماري تيريز فالتر، التي كانت تصغره بـ 17 عاماً، أخذت بسرعة مكان أولغا، وصارت ملهمته وموضوعاً لعشرات اللوحات، التي استعرض فيها بيكاسو مفاتنها وتضاريس عريها المكتنز.

توالت مغامرات بيكاسو مع نساء مختلفات، بالموازاة مع تصاعد شهرته، ولأن "قصص الحب تنتهي بالآلام دائماً وبشكل عام"، كما تقول الأغنية الفرنسية الشهيرة، فقد انتهت قصة الحب الروسي الجارف عام 1935 بهجران بيكاسو لأولغا، التي انسحبت بصمت من حياته الشخصية والفنية، مخدوشة الكبرياء مستسلمة لقدر شخصي لا فكاك منه.

انزوت أولغا في حياة منفى رتيبة مع ابنها، بعيداً عن أضواء عوالم الفنانين والمشاهير الصاخبة، التي تعودت عليها رفقة بيكاسو وهو من حب إلى حب، يزداد شهرة وغنى ناحتاً مكانته الاستثنائية في تاريخ الفن الحديث.

عن هذه القصة بالذات، ومن زاوية قدر الزوجة الأولى في حياة الفنان الشهير، يدور هذا المعرض الاستثنائي الذي ينظمه متحف بيكاسو في باريس، ويمتد حتى أيلول/ سبتمبر المقبل.

ويحتضن المعرض 350 قطعة من بينها حوالى مئة رسمة خصصها بيكاسو لأولغا رسمها ما بين 1917 و1925، بالإضافة إلى عشرات الصور والرسائل والبطاقات البريدية، وهي وثائق أقنع المتحف ورثة أولغا بالسماح بعرضها لأول مرة. هناك أيضاً صور ورسومات لأصدقاء بيكاسو، تعزز سردية المعرض وقصة الزوجين.

وحرص المنظمون على تقديم المعروضات المختلفة وفق تسلسل زمني، عاماً بعد الآخر، ما أتاح للمشاهد ملاحظة تطور فن الرسم عند بيكاسو وتنقله من حساسية إلى أخرى، تبدأ من التيار الكلاسيكي الجديد إلى المرحلة التكعيبية ثم السوريالية.

تبدو أولغا في البورتريهات التي خصصها لها بيكاسو في السنوات الأولى، سيدة غامضة تشع بجمال روسي بارد مع مسحة كآبة خفيفة تعود على الأرجح إلى انشغالها بمعاناة عائلتها في روسيا ما بعد الثورة، واختفاء أبيها وأخيها اللذين كانا يقاتلان في صفوف الجيش الأبيض المناهض للثورة البلشفية.

وتتيح الرسائل بين أولغا ووالدتها وأقاربها، التي يقدمها المعرض إلى جانب اللوحات، التعرف إلى هذا الجانب من شخصية أولغا، التي كانت تتابع بقلق مصير أفراد عائلتها في روسيا وتبعث لهم الأموال، أحياناً بمساعدة من الكاتبة الأميركية الشهيرة جرترود شتاين، التي كانت تقيم آنذاك في باريس وتربطها علاقة صداقة متينة مع بيكاسو.

وبتطور العلاقة الزوجية وتحول أولغا إلى أم وبعد ذلك إلى سيدة محبطة، تعاني من خيانات زوجها المتكررة، صارت البورتريهات أكثر قتامة والنظرات شاردة والأجساد مرسومة بخطوط حادة وزوايا مدببة. وترافقت تحولات أولغا من الأمومة إلى المعاناة من الخيانة الزوجية، مع تحول أسلوب بيكاسو نحو السوريالية، والطمس المنظم لتقاسيم الجسد الواقعية.

في إحدى واجهات المعرض الزجاجية نقرأ "العهد" الذي سطره الزوجان في ذروة حبهما بتاريخ 4 آذار/ مارس 1918: "سنعيش حتى الموت بسلام وحب. ومن يكسر هذا العهد سيكون الموت نصيبه"، وأسفل هذا العهد توقيع بيكاسو وأولغا.

لكن القصة أخذت مساراً معاكساً قوّض أحلام أولغا؛ لم يدم الحب طويلاً وانطفأت جذوته بعد أن خان بيكاسو العهد ومضى. لكن بيكاسو في المقابل اخترع أولغا "أبدية"، وخلّد قصة الحب القصيرة في رسوم ستعمّر طويلاً بلا شك.

المساهمون