بيروت الأخرى.. البحر الآخر

30 يونيو 2014
من سلسلة "الملثّم" لمنذر جوابرة / فلسطين
+ الخط -

حطّت قدماي على أرض بيروت للمرة الثانية في حياتي وكأنني رجل من الفضاء. كنت حاملاً لوحاتي كمقاتل من زمن الحصار يحمل "آر بي جي"، وفكرتي الوحيدة أن أعيد "الملثم" إلى بيروته، مكانه الذي احتضنه من قبل. أريده أن يقفز من لوحاتي حيث يختبئ، ليتخطى كل الحواجز والحدود.

تجاوزتُ ذاكرة زيارتي الأولى التي لا أذكر شيئاً منها لهول الصدمة. فقد كنت أقفز كالضفدع لشدة ضخ الدم لرأسي. ورغم محاولاتي في استرجاع تلك الأيام لا أزال غير متأكد من حدوثها. التذكّر كمن يجدّد غسيل كليتيه.

رحتُ أسترجع المشهد، ولأنني كالضفدع القافز بعينيين لا تكفان عن البحلقة، هيّئ لي أن الذين أمامي هم من يقفزون؛ الناس، المكان، البحر، شارع الحمرا، إقليم التفاح، الشيّاح، الاجتياح والفدائيون.

أتحسّس الجدران وتفاصيلها كالأعمى، وأجزم أن كل ملمح من ملامحها له حكاية مع شخص ما. وعند عودتي مساءً لـ"الحمرا"، ذلك المصنع الذي يعجّ بالحيوية والصوت والنشاط، ندخل في نقاشات مثيرة بصوت عالٍ تتخلله أغنية لفيروز أو زياد أو غيرهما.

أصير نحلةً في المساء، فالأزيز يعبئ المكان. ما إن ترمي كلمة هنا أو هناك حتى تحدث دوياً كالقنابل. كل الأحاديث المسائية تعيدني إلى زمن الانتفاضة الفلسطينية في 1987. ولا أبالغ حينما أقول إنني عشتُ هذه المرحلة من تاريخ فلسطين مرة أخرى في بيروت عام 2014. كان التشابه بين المكان والزمان كبيراً إلى حدّ بعيد، هناك حماسة كبيرة لدى الناس في النقاش والجدال السياسي. كبرت الفكرة لديّ، وهكذا إذاً بيروت لم تكن اسماً لمكان فحسب، بل هي حالة تعيش وتتطور.

تسلّلتُ كالأفعى في زيارة لمخيمي "صبرا" و"شاتيلا" خشية أن يراني أقربائي. لي أهلٌ وإخوَةٌ هنا. عطبٌ ما يصيب ذاكرتي، اختناق يطوّق شعوري. المخيم في فلسطين فعلاً إلا أن شوارعه أقل ضوءاً وأكثر اكتظاظاً، الروح نفسها، والابتسامات التي تخفي حنيناً وذكرى هي نفسها، سهولة الحديث بين الغرباء وبين أهالي المخيم متشابهة.

في المخيم كانت الأرواح مع فلسطين ولفلسطين. يسألونني عن أحوالنا وعن أحوالها، دون أن يتركوا لي مجالاً لأسأل عن أحوالهم. فلسطين تهمهم أكثر من حالهم. يسألون عن مدنهم وقراهم، وعن ناس فلسطين.

في لفتة غريبة كانت هناك عجوز جاءت لتشاهد المعرض بعد أن سمعت أن الفنان آتٍ من فلسطين، ويعرض "صوراً" للملثمين، وهو موجود الآن في المخيم. جاءت العجوز كالعروس لتتفقد زوجها بين الملثمين. قابلتني وتحدّثت معي عن يافا، وعن بيتها المطلّ على البحر، كانت تظن أنني ربما أحمل لها شيئاً من هناك. وفي منتصف الحديث أصرّت أن تعود معي إلى فلسطين. قالتها بجدية غريبة، ابتسمتُ مع غصة، بينما أكملت حديثها أنها سترافقني من خلال اختبائها في حقيبة السفر. كانت تسأل كطفلة: لماذا لا نعود إلى فلسطين؟ سؤالها كان يخبئ في طياته خوفها من الموت بعيداً عنها.

فدائيون لبنانيون ممن التحقوا بمنظمة التحرير إبّان عزها، جاؤوا ليطمئنوا أن عروسهم لا زالت تنتظرهم. راقبت عيونهم وأياديهم التي تتحرك هنا وهناك. أُصبتُ بالحول، كبرت شفتاي وتدلتا من الاندهاش؛ إنهم يحملون حلمنا.

في الوقت المستقطع بين الأحاديث كنت أهيئ نفسي لزيارة البحر لاعناً الجسد الذي لم يتعلّم السباحة. كنت أتحايل عليه، أثناء اللقاء، بالمشي على شاطئه فقط، لكنني اليوم عازم على تخصيص الوقت كله للماء.

أنا الآن في بيروت بالقرب من البحر، خطوات ويحتضنني. لست في بيت لحم حيث البحر مجرد حلم.

بعد ستة عشر يوماً قرّرت أن أزور البحر في النقطة الأقرب إلى فلسطين، بين بيروت وصيدا. ذهبت مبتسماً للقائه، حاولت الاستخفاف به، لكنني عندما أطلّيتُ عليه من فوق سور مستعيراً نظرة التحدي ضعفتُ، ضعفت أكثر مما أتوقع، وبدأت أجهش بالبكاء.

شممتُ رائحة البحر. أغمضت عينيّ واستنشقتُ ما استطعته من صوته ورائحته. للبحر رائحة تنوس بين الملوحة والنسيم، رائحة مخملية ذكرتني بحيفا. كنت أبحث عن أية فرصة لـ"التهريب" والقفز من فوق الجدار لأصل حيفا، واستطعت أن أزورها مرتين منذ 1993. كانت حيفا قبل ذلك أقرب، ففي أيام الرحلات المدرسية كنّا نوضب حقائبنا في المساء لنكون صباحاً فيها. الأمر كان سهلاً! كل ما عليك أن تجمع ثمن الرحلة، وستكون هناك مع البحر.

منذ ذلك التاريخ لم تعد حيفا إلا ذكرى. وصلتُ إليها متأخراً ومرعوباً، لم أجد تلك السعادة التي اعتدت عليها، فقدتُ الأمان من خشيتي أن يُقبض عليّ، وأزجّ بالسجن بتهمة زيارة البحر وتحريضه.

في حيفا كلما وصلتُ يهتاج الموج، وهو ما حدث معي في صيدا. هذا التشابه أكّد لي وحدة الجغرافيا.

هزمني وجود البحر هنا، كما هزمني غيابه هناك.

 

* فنان تشكيلي من فلسطين

المساهمون