بومبيو.. حين تنحطّ البراغماتية الأميركية

02 ديسمبر 2018
+ الخط -
نشر وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، مقالة في صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية  يوم 27 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي 2018) عن دور وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، في اغتيال الصحافي جمال خاشقجي. وهذه الصحيفة رصينة، على الرغم من نعتها محافظة، لكن مقالة بومبيو ليست رصينة ولا محافظة.
كشف بومبيو، في مقالته التي عنونها "الشراكة الأميركية السعودية أساسية"، عن مستوىً غير مسبوق من البراغماتية، وسوّق لها بمستوى غير مسبوقٍ من الاستهتار من مسؤول أميركي. وهو يبرّر تمسّك إدارة الرئيس، دونالد ترامب، بعلاقاتٍ وثيقة مع السعودية، وبتبرئة ولي العهد من دم خاشقجي، بأن العربية السعودية "قوة صلبة للاستقرار في الشرق الأوسط"، وتعمل "على حماية الديمقراطية الهشّة في العراق، وتبقي على ارتباط بغداد بمصالح الغرب، وليس بمصالح طهران. كما تساعد الرياض في إدارة تدفق اللاجئين الهاربين من الحرب الأهلية في سورية من خلال العمل مع الدول المضيفة". إلى ذلك، ثمّة أمران مهمّان، تقوم بهما السعودية، التعاون بشكل وثيق مع مصر وإنشاؤها "علاقات أقوى مع إسرائيل".
وكعادة مسؤولي إدارة ترامب، والمدافعين عنها، يحوّل الوزير بومبيو النقاش من محوره إلى محور آخر، ويحوّل الاتهام من ترامب إلى الرئيس السابق باراك أوباما. وفي ذلك يكتب إن "الذين يستخدمون مقتل خاشقجي سلاحا ضدّ سياسة الرئيس ترامب في السعودية هم أنفسهم الذين أيدوا تقارب باراك أوباما مع إيران"، قبل أن يذكّر، محقا، بأن النظام الإيراني نظام قتل الآلاف في العالم، بما في ذلك مئات الأميركيين، وهو يقمع شعبه بوحشية.
أما العربية السعودية، بالنسبة لبومبيو ورئيسه، فهي "مثل الولايات المتحدة، وعلى عكس هؤلاء النقاد، تدرك جيدا التهديد الهائل الذي تمثّله جمهورية إيران الإسلامية للعالم". ويذكّر بأن أحد 
أوّل أعمال محمد بن سلمان كان "محاولةَ استئصال النفوذ الإيراني المزعزع للاستقرار في اليمن"، ثمّ يشيد بالمساعدات الأميركية للتخفيف من معاناة اليمن من الحرب والمرض والمجاعة، قائلا، "ولولا جهود الولايات المتحدة، لكان عدد القتلى في اليمن أعلى بكثير، ولن يكون هناك وسيط نزيه لإدارة الخلافات بين العربية السعودية وشركائها في التحالف الخليجي".
أمضى بومبيو أكثر من نصف المقال عن اليمن وإيران، قبل أن يعترف أخيرا بأن "التخلي عن التحالف السعودي الأميركي، أو تخفيض مستواه، لن يفعل شيئًا لدفع الرياض في اتجاهٍ أفضل في الداخل". ثمّ يعترف بخجل وبسرعة هائلة بأنه ما زال هناك "عمل كثير يتعيّن القيام به، لضمان الحريات التي طالما دافعت عنها أمامها أميركا والرئيس ترامب". ومع ذلك، ولكيلا يفهم أيٌّ من القراء رسالته خطأ يسارع للقول إن ولي العهد "نقل البلاد في اتجاه إصلاحي، من السماح للنساء بقيادة السيارات وحضور الأحداث الرياضية إلى الحدّ من سلطة الشرطة الدينية والدعوة إلى العودة إلى الإسلام المعتدل".
وكان يمكن للمقالة أن تنتهي من دون ذكر خاشقجي، ولكن ذلك كان سيبدو مفتقرا للياقة إلى حدّ كبير، فجاء ذكر الرجل، في نهاية المقال، باعتباره مجرّد مواطن سعودي. "لقد أدى مقتل المواطن السعودي جمال خاشقجي في أكتوبر/ تشرين الأول في تركيا إلى تصاعد العويل في الكونغرس الأميركي (الكابيتول هيل) ومبالغات الإعلام". لم يشر بومبيو إلى أن خاشقجي صحافي، بل مواطن، ولم يشر إلى عمله كاتب عمود في صحيفة أميركية محترمة هي واشنطن بوست، كما لم يشر إلى أن الرجل يحمل حق الإقامة الدائمة في الولايات المتحدّة. مجرّد مواطن سعودي، اغتالته مجموعة عناصر مارقة تصرّفت بدون علم الحكومة السعودية. ولذلك، عاقب الرئيس ترامب هؤلاء المذنبين، بموجب الأمر قانون ماغنيتسكي الدولي للمساءلة عن حقوق الإنسان.
مرّة جديدة، تناقض الإدارة الأميركية وكالاتها نفسها، فقبل أيام أصدرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تقريرا قالت فيه إنها متأكدة من أن ولي العهد السعودي أعطى الأمر 
بتصفية خاشقجي. ولكنّ ذلك لم يعد جديدا في هذه الإدارة، فقد أصدرت، أخيرا، 13 وكالة علمية أميركية تقريرا شارك في كتابته أكثر من ثلاثمائة عالم متخصّص في البيئة والمناخ، حذّر فيه من نتائج كارثية على العالم والولايات المتحدة، مناخا ومجتمعا واقتصادا. ولكن الرئيس ترامب قال ببساطة إنه لا يصدّق ما قاله علماء بلاده. ترامب ومَن حوله بلغوا حدّا من الجشع أنهم يردون كلّ شيء الآن وفورا، من دون أن يفكروا حتى بأحفادهم هم أنفسهم، الذين لن يجدوا هواء نقيا يتنفسونه، ولا طعاما صحيا يأكلونه.
ويبقى أسوأ من ذلك كله تذكير وزير الخارجية، بومبيو، في مقاله بمقالةٍ كانت ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة والسياسية المحافظة، جين كيركباتريك، قد كتبتها عام 1979، "الدكتاتوريات والمعايير المزدوجة". تدين فيه إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق، جيمي كارتر، لأنها فشلت في التمييز "بين الحكّام المستبدين الذين يوالون المصالح الأميركية والذين يعادونها بشدة". وقد لاحظت كيركباتريك أنه "لا يتعين أن تتطابق المثالية الليبرالية مع المازوشية، كما لا يتعيّن أن تكون متعارضةً مع الدفاع عن الحرية والمصلحة الوطنية".
هذا كلام منحطّ لا يقيم صاحبه وزنا لأي قيمةٍ سوى الربح المباشر والفوري، بغض النظر عن أي انتهاكٍ للقيم والمبادئ الأميركية نفسها، وعن حقوق الإنسان التي وردت، أول ما وردت، في إعلان الرئيس الأميركي، وودرو ويلسون، سنة 1914، عندما كانت المبادئ والقيم تحتلّ مساحة من تفكير زعماء البيت الأبيض، قبل أن تبدأ هذه القيم بالتراجع، ليعصف بها أخيرا تاجر عقاراتٍ اسمه دونالد ترامب.
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح