يعيش البوذيون في روسيا منذ نحو أربعة قرون، بعد مجيئهم من منغوليا، واليوم يبحثون عن استعادة تراثهم وبناء المعابد وتحويل مناطقهم إلى وجهات رائدة للسياحة الثقافية والدينية
لطالما عاش البوذيون في روسيا، وهم الذين حضروا من منغوليا، قبل نحو 400 عام، بحرية وتمتعوا بدرجة عالية من الاستقلالية في الحقبة القيصرية، مع ذلك فقد تعرضوا للاضطهاد في عهد الزعيم السوفييتي، جوزيف ستالين. وفي غياب إحصاءات دقيقة، يقدر رئيس تحرير مجلة "البوذية في روسيا" أندريه تيرينتييف، عدد البوذيين هناك بأكثر من نصف مليون شخص يتركزون في جمهوريات كالميكيا وبورياتيا وتوفا ويعتنقون جميعاً البوذية التبتية، بالإضافة إلى معتنقي البوذية في موسكو وسان بطرسبورغ وغيرهما من المدن الكبرى.
يقول تيرينتييف لـ"العربي الجديد": "بدأ البوذيون بالظهور في روسيا قبل نحو 400 عام، حين هاجرت قبائل الأويرات من منطقة جونغاريا الآسيوية، فاستمروا في الترحال لبضعة عقود إلى أن وصلوا إلى ضفاف نهر فولغا، فاتفقوا مع قيصر روسيا على العيش ترحالاً في تلك المنطقة شريطة حماية الحدود الروسية. وتم السماح للأويرات بالحفاظ على استقلاليتهم وديانتهم البوذية، فاستوطنوا أراضي في محيط مدينة أستراخان ومنطقة بحر قزوين التي تسمى اليوم جمهورية كالميكيا".
وحول كيفية تمدد البوذية في عهد روسيا القيصرية، يضيف: "بعد مرور ما بين خمسين عاماً ومائة، اعتنق أغلبية البوريات البوذية، فأصبحت ديانة مهيمنة في بورياتيا الشرقية. أما جمهورية توفا التي كانت جزءاً من الإمبراطورية الصينية، فكانت تخضع للقيادة البوذية في منغوليا، ثم أصبحت محمية روسية بعد نيلها استقلالاً عن مملكة تشينغ في عام 1914. وما زالت هذه المناطق الثلاث هي المراكز الرئيسية للبوذية في روسيا حتى اليوم".
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، بدأ الروس أنفسهم يبدون اهتماماً متزايداً بالشرق عموماً والبوذية على وجه الخصوص. ولم يمنع رفض الكنيسة الأرثوذكسية افتتاح معبد بوذي في العاصمة الروسية آنذاك بيتروغراد في عام 1915 وسط ارتفاع عدد البوذيين فيها إلى نحو 200 فرد، وكان من بينهم روس.
بعد تأسيس الاتحاد السوفييتي ووصول ستالين إلى سدة الحكم، عاش البوذيون، شأنهم في ذلك شأن معتنقي جميع الأديان، سنوات عصيبة شهدت إغلاقاً ونهباً للأديرة واعتقال العديد من الكهنة اللاما في الثلاثينيات. لكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، توجه ستالين نحو انتهاج سياسة أكثر تسامحاً مع الأديان، فتم السماح بممارسة البوذية في بورياتيا وحدها، ليستمر هذا الوضع حتى حقبة الإصلاحات (بيريسترويكا) في عهد آخر زعماء الاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في الثمانينيات من القرن الماضي.
ويعلق تيرينتييف على وضع البوذية في الحقبة السوفييتية وبعدها، قائلاً: "تعرضت البوذية وغيرها من الأديان للاضطهاد في حقبة الاتحاد السوفييتي، لكن جرى افتتاح ديرين بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأ عدد الأديرة يتزايد بصورة مطردة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ووصل إلى نحو 100 بحلول اليوم مقابل نحو 150 ديراً في عام 1917. كذلك، بدأت البوذية تنتشر بين أبناء الشعب الروسي، ليبلغ عدد معتنقي البوذية الجدد بينهم نحو 15 إلى 20 ألفاً. ومنذ نحو 30 عاماً، تجري أعمال بناء دير في موسكو لم تكتمل بعد".
ويلفت تيرينتييف إلى أنّ البوذيين في روسيا اليوم لم يعودوا يمارسون ديانتهم بحرية فحسب، بل يعملون على تحويل المعالم البوذية إلى وجهات سياحية، مشيراً إلى نجاح تجربة جمهورية كالميكيا في جذب السائحين نظراً لسهولة الوصول إلى عاصمتها إيليستا الواقعة في جنوب الشطر الأوروبي من روسيا، كما يجري الترويح للرحلات السياحية إلى جمهورية بوريتيا الواقعة في جنوب شرق سيبيريا. في المقابل، ثمة عقبات أمام تنظيم الرحلات السياحية إلى جمهورية توفا المجاورة بسبب صعوبة الوصول إليها، وفق ما يوضحه الباحث الروسي.
ومع إطالة أمد القيود الصارمة على السفر إلى الخارج بسبب جائحة كورونا، تراهن شركات السياحة الروسية على تسويق مختلف أنواع الرحلات داخل روسيا. ويظهر البحث على مواقع الشركات السياحية الروسية أنّه يمكن حجز رحلة استكشافية إلى جنوب روسيا، مثلاً، تشمل زيارة بعض المدن والمعالم البوذية في إيليستا بأسعار تبدأ من نحو 300 دولار للفرد الواحد شاملة الإقامة والمزارات، على أن يسافر السائح إلى الوجهة بمعرفته وعلى نفقته.
يذكر أنّ البوذية تعد الديانة الرابعة الأكثر انتشاراً في العالم بعد كلّ من المسيحية والإسلام والهندوسية، ويبلغ عدد معتنقيها نحو نصف مليار نسمة أو نحو 7 في المائة من إجمالي سكان العالم، وفق الأرقام الواردة بموقع مركز "بيو" الأميركي للدراسات.