جماليات الطبيعة، والريف، والقرى المزّنرة بالألفة والبهاء، التي صورتها لوحته بمذاقات حسيّة وتعبيرية، شكّلت للفنان في مراحله الأولى، ملاذاً بصرياً مرتجىً من وطأة مهجره الألماني المتواصل منذ بداية السبعينيات. فيما شكّلت العلاقة بين المهاجرين والأوروبيين، لجهة الاندماج والتعايش، بداية توجّه لوحته إلى رصد أحوال الناس، ومعاينة تحولاتهم في محيطهم الجديد.
مع مطلع التسعينيات، تخفّفت لوحته من فائض حمولاتها السرديّة، لتتجه نحو الانفتاح على الجسد الإنساني بوصفه المساحة الفضلى لتقصّي أعماق الكائن، وتقمّص رغباته الدفينة التي يتدفق معھا على نحو تراجیدي، سيلٌ من التعبيرات المصاحبة للخوف والانكفاء والاستكانة، والعزلة على أطراف الخلاص المفقود.
بهرم حاجو الذي شارك حديثاً في الورشة الفنيّة التي نظمها مهرجان "خان الفنون" في "دار الأندى" في عمّان، يصفُ تحوّل لوحته من حاملٍ لمشاهد الطبيعة وجمالياتها المتنوعة، وانتقالها من السرد التعبيري إلى أحوال المهاجرين في المجتمع الأوروبي، في اتجاه مساحات الجسد، بـ"الانقلاب الجذري". وهو الانقلاب الذي شَرعَ له آفاقاً تعبيرية جديدة على الأزمات النفسيّة والاجتماعيّة والثقافية التي ترتسم علاماتها وتعبيراتها على سطح الجسد العاري والموشوم بالكتمان والحرمان.
شخوص حاجو، الذي فاز حديثاً بـ"جائزة هنري ماتيس" الفرنسية، وهي من أبرز الجوائز العالمية في الفن التشكيلي، تكاد تتقاطع على نحوٍ شبحي مع شخصيته وهويته، من حيث المَلْمح والهيئة والتعبير. وهو لا يخفي هذا التقاطع حين يقول: "عندما أرسم نفسي في كل لوحة، أرسم تلك الحالة، بعدما أصبحت عارياً تماماً من الدفء والأمان والترابط الإنساني، فلا شيء هنا يعوّض ما فقدته".
الجسد العاري، المُثقل برغباته المحتدمة، لا يواري عُريه إلا وشاح لوني شفيف لا يستر العُري بقدر ما يؤكده حين يشير إلى ما يحجبه بلونٍ صريح. عريٌّ سرعان ما يتحرّر من الجنس والرغبات والنزوات، خصوصاً "إذا ما قُرئ لجهة العاطفة والوجدان"، بحسب الفنان الذي درس الفنون في جامعة "مونستر" الألمانية، حيث يعيش في مدينتها متفرغاً للفن حتى اليوم.
بعد مرور نحو أربعة عقود على هجرة الفنان وطنه، قرّر العودة النهائية إلى مسقط رأسة قبل أربع سنوات. "أمضيت أكثر من أربعين عاماً خارج وطني، وعدتُ لأستكمل بناء بيت لي في القامشلي قبل الحرب، على أمل أن تكون إقامتي الدائمة في سوريا"، يقول حاجو. ومن دون أن يعرف أن "النُدبة" التي حملتها أجساده العارية في تطوافها وارتحالها، ستستدعي الرحلة "العوليسيّة" دفعةً واحدة في طريق عودته المضنية إلى الوطن. وما أن أفاق ذات "ربيع عربي"، حتى كانت الأمواج المتلاطمة تعصف بوطنه، لتبتلع مرتجاه المنشود في العودة إلى "إثيكا".
لم تكن لوحته بمنأى عن التحوّلات التي شهدها العالم العربي منذ بدء الاحتجاجات على أنظمة القمع والاستبداد؛ فانحازت برموزها وتعبيراتها إلى المطالبين بالحرية والديموقراطية والحياة الكريمة، باعتبارها حقوقاً مشروعة. الفنان، بحسبه، "مطالب أكثر من غيره بالانحياز إلى تلك الحقوق. فقد سبق أن عانيت مع شعبي، بوصفي كردياً، الكثير من الظلم والتهميش".
مجريات الأحداث في المحيط العربي لم تنعكس بشكل مباشر أو ملموس على لوحته، باستثناء بعض الرموز والمفردات العربيّة التي تحركت وامتزجت مع الإيقاع التكويني والتعبيري للوحة، مثل إضافته الحطّة العربيّة التي زاحمت في بعض مواضعها الوشاح اللوني على الأجساد العارية، وتسرّب اللون الأحمر إليها. فيما أخذت الأجساد بالتباعد عن بعضها بعضاً، واتّسعت مساحات الفراغ على حساب مساحات الأشخاص الذين اختلّت موازينهم، وضاقت بهم أجسادهم في هاويةٍ خانقة رغم اتساعها. يعزو الفنان ذلك إلى "غياب الشعور بالأمان الذي فاقم من عزلة الإنسان، وجعله أسيراً للخوف، وأنيساً للوحدة والفُقدان. بينما يشير اللون الأحمر إلى ما يُراق في بلادي من دم بريء".
ترسيخ الإيحاء عبر حركة الخطوط والجسد، وتكثيف تعبيرات الوجه ونظرات العيون، وتعزيز الخلفيّة الرمادية بالغبش الذي بات يلقي بظلاله على الأجساد "المهانة والمُذلّة"، هما أيضاً بعضٌ من التأثيرات التي تسللت إلى لوحته في غمرة تلك الأحداث.
رغم ذلك، يُبدي حاجو، عضو الاتحاد العام لفناني ألمانيا، عدم تفاؤله بإمكانية مساهمة الفن في الوقوف بوجه الخراب الذي طال أكثر من بلد عربي، على الأقل في المدى المنظور، "لأن حجم الانحدار أكبر من كل التوقعات والحسابات". مع ذلك، يشارك في جلّ النشاطات العالمية والعربية الرامية إلى تبديد سوء الفهم حول طبيعة الثورة السورية، وكان آخرها مشاركته في "القافلة الثقافية السورية" التي انطلقت من باريس بمبادرة مثقفين وفنانين وجمعيات سورية ـ أوروبية، وجابت العديد من المدن الأوروبية.
تأثرت لوحة حاجو، الذي أقام نحو 70 معرضاً في العديد من مدن العالم، بالتعبيرية الألمانية التقليدية، كجماعة "الفارس الأزرق"، والتعبيريين المعاصرين، خصوصاً لجهة مواضيعهم النقدية الإنسانية والاجتماعية والسياسية، مثل لوبرتسن، وريتشتر. ولم يحُل ذلك التأثير دون تحقيق لوحته مذاقاً تعبيرياً خاصاً، جعلها تجد مكانها في المشهد التشكيلي الأوروبي الحديث، من دون أن تفقد ملامحها الشرقية؛ ملامح فارسٍ من القامشلي.