بضائع مفخّخة

09 سبتمبر 2014
يمارس عمله في البيع وهوايته في الشتائم، بالتوازي (Getty)
+ الخط -

"انزلوا يا نَوَر، سلطان طازج يا بقر... العمى بعيونكم تعالوا اشتروا"... موشحات يومية، يطرب فيها موسى سكان الحيّ الكبير، في إحدى مناطق بيروت. يجوبه كلّ يوم، بعربة تعلوها أفرشة نظيفة، تمتلئ بالسمك، مرتباً بعناية.

صيفاً وشتاء، لا يخلف موسى موعده. يميّزه سرواله القصير، وقميصه البلا كمّين، وسمرته البحرية. منذ بدء خروج الموظفين إلى أعمالهم، حتى موعد أذان الظهر، يتنقل بين زوايا الحيّ، ويركن في الناصية المفضلة لديه.

يعرف الثلاثيني المشدود الجسد، تماماً، أنّ بضاعته مميزة، والإقبال عليها لا لبس فيه. فهو سيد من باع "الفرّيدي"، و"السلطان إبراهيم"، و"الجربيدي"... حتى "المواصطة". يمارس عمله في البيع، وهوايته في الشتائم، بالتوازي، منذ خمسة عشر عاماً.

ليس هنالك من سبب مباشر لذلك. ربما هو تراكم أحلام فانية لديه. تلك الخسائر المتتالية، التي تدفعه إلى بيع أسماكه، بنفحة الغضب تلك. غضب من مجتمع ونظام، يتربصان به منذ زمن بعيد، ولا يجد في يده، ولسانه، إلاّ الشتيمة.

لا يتحرّج موسى من إرسال شتائمه ملء الفضاء، كي تصل مدوية إلى أعلى الشقق. تعاتبه بعض السيدات المشتريات بلطف، "عيب يا موسى". لكنّه يتهرب من العتاب، بالإعلان لهن، أنّ تلك الشتائم موجهة لشخص معين، يعرف أنّه مقصود بها. وكم من مقصود، في كلّ شارع من شوارع الحيّ يا موسى!

الحيّ اعتاده واعتاد ما فيه من شتائم بلسانه، وأخرى ترتد عليه. فالقانون الطبيعي، في الفعل ورد الفعل، مطبّق هنا، ولو بعد حين. الغريب أنّ أحداً لا يصل مع موسى، أبعد من تشاتم، يغتسل الجميع به، ليعاودوا الاغتسال منه. فلا أثر لشجار، ولا مكان لوسطاء بين المتشاتمين. فالدولة وقبضتها الأمنية، ومخافرها، أبعد ما يكون عن بال أهل الحيّ.

شهاب أيضاً يشتم على طريقته. طريقة لا يستخدم فيها كلاماً أبداً، بل أسعار. فالرجل الذي يملك محلاً لبيع الخضار، لا يشبه أبداً الباعة الآخرين في الحي، ولا خضاره وفاكهته، تشبه ما لديهم.

هو بائع مجوهرات، كما يسميه السكان. بل هو "أنجس بائع"، يقول أحدهم. أما هو فلديه مبرّراته. هو يعلم جيداً أنّه "ينهب" السكان. لكنّه يقصد ذلك، لا عن طمع، أو سعي لثراء. بل يفعل ذلك، لأنّه يعتبرهم غير جديرين بما لهم من مال.

يعرف أنّ أسعاره ستبعد الفقراء. فيقصد فئة محددة، يتصدرها طارئو الثراء، من لصوص إدارات عامة، وحزبيين ممولين من الخارج، ورجال دين بركاتهم ترتدّ عليهم عملات أجنبية.

هي ليست الشتائم الوحيدة في هذه البلاد، فما أكثر ما يواجهنا، ويدعو إليها، بأفظع من موشحات موسى، وسلاطته.
المساهمون