بشار الأسد قتل الليرة أيضاً

18 نوفمبر 2019
الليرة السورية تواصل التراجع (جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -
فعلها رئيس النظام السوري بشار الأسد، وأعطى الليرة، مبرر انهيارها الأخير، لتترنح العملة السورية عند أدنى مستوى في تاريخها، منذ صدرت عام 1919 وقت كانت تساوي 20 فرنكاً فرنسياً.

فإطلالات الأسد المتكررة على الإعلام، وتملّصه من مسؤولية التضخم النقدي وتردّي الواقع المعيشي، ورميه المسؤولية على الإرهاب و"المؤامرة الكونية" والحصار الأورو أميركي، لم يعد يقنع الشعب السوري الجائع، وبكل معنى الكلمة هذه المرة.

فالسوريون الذين لم يخرجوا بثورتهم عام 2011، لأسباب معيشية، باتوا يعانون اليوم الأمرّين "الجوع والعطش"، بعد أن ارتفعت الأسعار وخلال أسبوع، بأكثر من 30%، ليقف السوريون عاجزين، بأجرهم المثبت منذ سنوات، حتى عن تلبية مستلزمات العيش، من طعام وماء.

فأن يصل سعر صرف الدولار لنحو 720 ليرة سورية، ولأول مرة في تاريخ النقد السوري، وتلتهب الأسعار متأثرة بالعملات الصعبة وقياس الباعة أسعار سلعهم بالدولار، وتبقى أجور السوريين عند عتبة 40 ألف ليرة، فهذا بعض إنجازات الحكومة السورية الرشيدة.

ولا تتأتى تلك الإنجازات من تبديد الاحتياطي النقدي الدولاري الذي ناف 18 مليار دولار مطلع الثورة، على شراء الذمم والأسلحة لمحاصرة تطلعات السوريين وقتلهم، بل وأضاف بشار الأسد إليها قبل أيام، فقدان ثقة السوريين المطلقة بعملتهم، وبأي أمل كان يساق في الماضي، من قبيل التغرير أو بث شائعات الانتصار وتحسّن الوضع الاقتصادي.

ربما السبب المباشر الجديد لتهاوي سعر الليرة السورية، جاء بعد اعتراف بشار الأسد بعجزه عن فعل أي شيء، مترافقاً مع قرار حكومته، التنصل من زيادة الرواتب الموعودة منذ عامين، والانسحاب الكامل من تمويل التجارة وبيع المستوردين السوريين، كما كانت تفعل سابقاً، الدولار بالسعر الرسمي (434 ليرة).

وترك المصرف المركزي ووزارة الاقتصاد بدمشق، المستوردين، ليتدبروا أمورهم عبر شراء الدولار من السوق السوداء، بسعر اقترب من ضعف السعر الرسمي الذي عولوا عليه، وقت أبرموا عقود استيراد السلع والمنتجات، ليسدوا حاجة السوق السورية، بعد تراجع الإنتاج الصناعي والزراعي.


ولكن، ما هي الأسباب التي سبقت تفجير بشار الأسد، مخاوف السوريين، عبر حواراته التلفزيونية، ليتسابق المكتنزون للتخلّص من الليرة، باتجاه العملات الصعبة والذهب؟

تتضافر وعبر سنوات الحرب، أسباب اقتصادية ومالية، أدت مجتمعة لزيادة نسبة الفقراء في سورية عن 85% وأودت بالليرة لتخسر 14 ضعفاً من قيمتها، وكانت الخسارة الأكبر خلال الأسبوعين الأخيرين، وقت هوى سعر الصرف بنحو 100 ليرة أمام الدولار.

ربما يأتي تراجع الإنتاج الحقيقي بأكثر من 50% منذ عام 2011 حتى اليوم، السبب الاقتصادي الأهم لتراجع سعر الصرف وعرض السلع في الأسواق، وبالتالي زيادة المستوردات وعجز الميزان التجاري الذي بات يشكل ربع الناتج المحلي الإجمالي.

لكن امتناع المصرف التجاري عن تمويل العمليات التجارية، واضطرار المستوردين لشراء الدولار من السوق السوداء لتسديد قيم فواتيرهم، زاد الطلب على العملات الأجنبية وزيادة عرض الليرة السورية، ما زاد من طين الأسباب الاقتصادية المتعلقة بتراجع الإنتاج، بلّة إضافية.

ولا يمكن إنكار ما سببته العقوبات الأميركية والأوروبية، خاصة على تشديد الرقابة على استيراد النفط، ما ساهم، بواقع زيادة الطلب على المشتقات النفطية مع بدء فصل البرد، بتبديد ما تبقى من قطع أجنبي في خزائن نظام الأسد، بل دفعه للاستنجاد بالتجار ليسدوا بعض حاجة السوق، فرأينا، وللمرة الأولى، تعهيد استيراد النفط لرجال الأعمال.

كما لا يمكن إهمال أسباب اقتصادية مهمة، كانت بالماضي تشكل أهم عوامل دعم العملة السورية عبر توليد قطع أجنبي، كالسياحة والصادرات والتحويلات الخارجية، والتي اقتربت من الحدود الصفرية، عدا النفط الذي أرهق الخزينة السورية بعد انتقاله من موقع الداعم عبر تصدير نحو 150 ألف برميل نفط يومياً، إلى استيراد أكثر من ذلك اليوم، بواقع سيطرة نظام الأسد على مواقع تنتج 25 ألف برميل فقط، بواقع استهلاك يومي يقترب من 200 ألف برميل كل يوم.


وكل ما سبق من أسباب اقتصادية ونفسية، تضاف إلى استمرار نظام الأسد في التمويل بالعجز عبر طرائق عدة، أهمها إحداث الخلل عبر العرض الزائد من خلال طبع أوراق نقدية بالعملة السورية ورميها في الأسواق، من دون أي تغطية إنتاجية أو خدمية أو حتى دولارية، وتغطية بالذهب، بواقع يدلل على نفاد الاحتياطي النقدي الأجنبي في المصرف المركزي، وفق دلائل ومؤشرات عدة، منها الانسحاب من تمويل المستوردات وفق السعر الرسمي 437 ليرة للدولار، أو الامتناع عن بيع الدولار عبر تدخل مباشر كما في السنوات السابقة، طبعاً إلى جانب المضاربة واستغلال الفلتان في سورية، وما يمكن أن يجنيه اللاعبون بالعملة، من مكاسب وأرباح، في وقت ليس من المبالغة وصفه بالاستثنائي والشهي على المتاجرة والأرباح.

نهاية القول: ماذا بعد؟ ومتى يمكن أن تتوقف الليرة عن التهاوي والخسائر؟ هو سؤال يتوارد حالياً إلى أذهان سوريي الداخل الذين تزيد أكلاف معيشتهم عن 300 ألف ليرة شهرياً، في حين لا يزيد دخل الأسرة على 40 ألف ليرة.

تبدو الإجابة أكثر قتامة وبؤساً بواقع الأسباب الآنفة، وما يمكن أن يضاف إليها بعد عودة الولايات المتحدة لوضع اليد، بشكل مباشر، أو عبر الوكلاء في تنظيم "قوات سورية الديمقراطية"، على مواقع وآبار إنتاج النفط والغاز، التي كان يعوّل نظام الأسد على استرجاعها لسد فجوات الاستيراد، فليس مستبعداً أن يصل الدولار الواحد غداً إلى ألف ليرة، إذ لا محددات ولا ضمانات ولا أي شيء يبرر استمرار الليرة حتى اليوم، على قيد الحياة والتداول.

المساهمون