برواز

20 مارس 2016
لوحة عن الحب (Getty)
+ الخط -
أنا في بعد آخر من الحزن، أهلي الذين اعتادوا النزوح أكثر مني، تسقط بجانبهم البراميل والقنابل، والرصاص يرسم خط السماء فوقهم كل يوم، في قلبي تماماً. الركام الذي أصبحته بعد هربين، ونزوح واحد معهم، لم يعد له تلك الماهية القادرة على تحمّل الريح أكثر، أصدقائي كلهم ابتعدوا، منهم لراحة دائمة، منهم بقي ليصد الريح، ومنهم من أعطى كل شيء وكسب تذكرة بحر، ولا غرق.

أخواتي، ثلاثتهن "أم حسن"، لا أذكر وجوههن جيداً، كنت أراهن كل يوم جمعة. وفي الأعياد، حيث الطريق كان مجرد أغانٍ وركضٍ تحت جسر "سراقب". كلما تحدثت لإحداهن على السكايب يأتي أحد أولادهن الجدد، وصاروا أكثر ممّا استطعت العد لصديقي، صاروا مجرد أسماء من خلف الشاشة، كنت أعرفهن وأحصي نتاجهن، اليوم لست متأكداً أنني كنت هناك، أو كانوا بقبائل ضحكاتهن.

إخوتي الثلاثة الذين يكبروني، مسافات ضيقة من الحديث كل يوم، أحدهم يقول لي "يرحم أبوك، طلعت صح"، يفهم تماماً عمق الفكرة بين الخلود في منفى والفناء في أرض يزرعها أبوك منذ 70 سنة وموت، هذا أخي الذي تزوج بدون علمي، وكبر بدون علمي، وأصبح أباً مع علمي أن هذه الصغيرة لن تعرفني، ولا أريد لها معرفتي وأنا بكل هذا الفراق. 
أكبرنا، ابتعد منذ كنت صغيراً، يقترب أحياناً ودائماً يبتعد، كانت لديه أحلامه التي أعرفها جيداً، وقصصه التي أعرفها جيداً، أخي الذي يصغره ويكبرني بسبع رحلات، ينام أكثر من الجميع، يحادثني كل مرة بحلم جديد، أعرف أنه ينجح دائماً، ويصل دائماً، كلهم يصلون، كل إخوتي هناك، ما بين ضفتي نزوح، يهربون كل يوم، ويعودون، دائماً يأخذون القلب معهم، ولا يعود.

أبي، رحل في يوم كنت أحادث بقايا الأهل حوله، قالوا إنه بصحة جيدة ونائم، لم أشأ إيقاظه ذلك اليوم، لم أشأ أن يرى تعبي وجهاً لوجه. لا، أقصد شاشةً لشاشة، كنت عتالاً في أحد محلات لبنان، لم أردم الهوّة التي بيننا، كنت منفياً دائماً، وكنت أجده دائماً، أبي الذي أبكيه كصديق دائماً، وكأبٍ أحياناً.

أمي التي أصبحت بكسلات متقطعة كصوتها المخنوق في لقيانا، أمي التي لسانها يقول "أنا الأم الحزينة"، لا زالت تقول لي كلما رأتني على الإنترنت "انصلعت ع بكير، همّك كبر يا ابني، الله يوفّقك". ثم تدرك أنها لم تنتهِ من محبتها فتقول "بس عطول حلو انت"، أضحك، أقهقه وأقول لأذكّرها بما اعتادت توبيخي به "كل الولاد بعين أمّن غزال، إلا أنت بعيني قرد". تضحك أمي، ينزح القلب قليلاً ثم يختفي، كضحكتها التي يبتلعها الدمع.

لم أجد لي صورة معهم، كل شيء لديّ مجرد دبكاتٍ وأغانٍ، ورقصات في أعراس "الزبيب وقضامة"*، كلهم لا يملكون صوراً، كانت لدينا صورة واحدة معلّقة لجدي وجدتي اللذين رحلا قبل قدومي، كانا مجرد برواز لسكان قبور، كهذه الشاشة التي أصبحت برواز نزوح، لا نريده أن يستمر، ولا ينتهي، لا فرق، فالغربة ما إن تبدأ، لا تنتهي.






*** "الزبيب وقضامة": كلمة من قريتي تدل على أعراس يكون فيها الرجال والنساء معاً في الدبكة والغناء.


اقرأ أيضاً: آذار كلّ مرّة
المساهمون