برزخ طنجة: العيش في عالمين بلغات وثقافات عديدة

31 اغسطس 2015
البحر البرزخي (Getty)
+ الخط -

كلّ ما فعلته لنا الحياة جعلتنا نتوارى خلف خطواتنا وممشانا وكلماتنا الصغيرة والكبيرة. كنت أصغي وحدي، لا أحد قربي. ولإتقان ذلك، كنت أعلق أوراقي على لوح صغير إلى جانب ثلاجة المطبخ، الأوراق التي كتبت فيها كل ما يطيح بي، ثم أتصالح مع نفسي بوجبة من السمك وصحن سلطة خفيف، ثمّ أغسل حبّات من التين الآتي من جبال محيطة بالمدينة أو بدلاً منه أقشّر حبّات ثلاث من الصبار الشوكي، وألتهمها حدّ التلذذ.

كنتُ أصغي وحدي وأنا أعمل من داخل البيت، بعيدة. أحياناً أقرّر أن لا بأس إذا ما تشابكت صباحاتي مع أناس غرباء بالمدينة. أناس تعوّدت على وجودهم لدرجة أشعر فيها كأنّني أعيش حياتين في وطنين مختلفين.

في العاشرة صباحاً، وفي معظم الأيام، عليّ أن أمشي إلى المدينة القديمة صعوداً. أصعد شارعاً طويلاً، وتحت الظلّ، لأصل إلى مطعم "نمبر وان" بذوق صاحبه الرفيع ثم إلى "سور المعكازين" وقهوة باريس. بعدها بخطوات قاعة "دولاكروا" وأوتيل المنزه في شارع الحرية ثم الدرجات المؤدّية إلى "فندق الشجرة" الذي أجهله.

في هذا الممشى فسحات أمل كبيرة لم تخنقها البيوت بعد، تتيح لي يوميا أن أتنفّس البحر وأفكر: "يا إلهي، من نحن الذين نعيش على حافّة العالم، هنا وفي هذه المدينة؟ هل لنا خواص أخرى؟ لهجة أخرى؟ بصوت غريب وألسنة كثيرة، ووقت يمضي برخاء بتدخين "الهاش" أو كأس قهوة زمنه طويل بأحد المقاهي؟

أمضي لأنعطف بعد شارع الحرية يميناً، ومن هناك، من زاوية حيث تباع حلوى المكسرات المعقودة مروراً ببيوت تحمل شرفات بأصص ورد "الخبيزة" الحمراء على الطراز الإسباني، آخذ شمالي مروراً ببائع حلوى "الإسفنج" حتّى أصل غايتي، "سينماتيك الريف".

وهي تأسّست عام 1938. نعم تأسست في هذا التاريخ، وأنا من العابرين به، اختارني ذلك المكان والتاريخ ولم أخترهما. هذا المقهى الأكثر حميمية في المدينة ذات الوجهين، "ستايله" شبابي، شعبي، مغربي، عصري، أجنبي.... صندوق عجب مليء بحكايات الناس الزوار، أو العاملين فيه، أو الذين أذيعت أدوراهم يوماً ما بأحد الأفلام، داخل قاعتين، الصغيرة والكبيرة.

اقرأ أيضاً: "التاكرة" وجبة سمك ترافق المغاربة في رحلاتهم

لكن محطّ إعجابي حدّ اللحظة، تلك المرأة الستينية التي خدمت ولا تزال تخدم المقهى منذ سنين غابرة. سيدة تضع نظاراتها الطبية دائماً، وترتدي حجاباً بطرفين للأمام بحيث لا يظهر عنقها، و"فيست" أسود طويلاً يغطي ملابسها العادية، ثم تقفع أكمامها حدّ الكوع، وتنشغل طويلاً بالمطبخ، ثم تظهر وبيديها كأس شاي طويل، نصفه نعنع ولويزة وأحياناً شيبة ومُحلى. تغليه في أباريق كبيرة على نار هادئة كما تفعل أمهاتنا في بلادي الأولى، لكنّه يُغلى مع أوراق المريمية.

السيدة فاطمة تعمل حتّى أذان العصر، أجلس في المقعد قبالتها، فتأتي بكأس الشاي مع كلمات من الرضا والطبطبة، تحمله بيديها، ثم لا داعي للإتيكيت في مقهى السينماتك. وتنصرف لتشرف على عمليات إعداد الحلوى والعمليات الحسابية.

تمضي الساعات والناس يمضون أمام المقهى في ساحة تعرف باسم ساحة سوق "ادبرا": الجبالة، وأهل المدينة، والسياح، وبائعو الخردة، وعربات البرتقال، ومروّجو شركات الاتصال، وآكلو البيتزا والمعجنات، والمصلّون، والقرّاء، والكتّاب، والأمهات، والخائنون، والمدمنون، والمشرّدون، وبائعو الأسماك...

كل العالم يجري هناك، يدور، يلهث، يوقف التاكسيات، يشتم، يتأفف، يصرخ، يبيع ويشتري، ينتظر، يتأمل، يشرب القهوة، كل هذا العالم يجري أمامي، وأنا أجلس بمقعد وحيد في السينماتك، والسيدة فاطمة لا تزال تتحدث الإسبانية، والدارجة المغربية، والفرنسية، والإنكليزية... تتكلم وأنا أبتسم لقدرة هذه المرأة العجيبة على إتقان اللغات الأربع، ولقدرتها على التحكم بيومها من أوّله حتى منتهاه، وليس كمن يضع ورقاته على لوح في المطبخ.

اقرأ أيضاً: مهرجان "ثويزا" يختتم دورته الحادية عشرة "الثقافة إكسير الحياة"

أتركها تكمل عملها وأغادرها مع أذان العصر الصادح من المسجد الكبير قرب المقهى، وأقطع شارعين يفصلهما دوّار وأدخل باب "الفحص"، أحد أبواب المدينة القديمة المسوّرة، أعبر باتجاه القصبة، لكنّ رائحة الزعتر البري تعطر الشارع وثياب الناس.

من جاء بهذا العجب؟ لمحته. رجل طويل بطاقية وبنطال جينز يبدو أنّه قادم من جبال "أقشور"، يضع لنا بضاعته ويكمش من "شوال" الزعتر ويبيع. لم يكن الزعتر غايتي. أريد أن أوصي أحد صانعي الفراش التقليديين بأن يصنع فراشاً محكماً كي ترتاح عليه آلام الأقدام التي تجري في المدينة منذ عامين تقريباً. طمأنني صانع الفراش إلى أنّ ظنّي لن يخيب وستمضي الليالي خالية من أوجاع الكتفين ومنتصف الظهر. مع ابتسامات خفيفة وتوضيحات مرّة بالمغربية ومرة بالفلسطينية استطاع الصانع أن يفهم ماذا أريد، بالقياس الذي أريد ويريحني.

عدت من باب دار القصبة، فندق وجلسة لطيفة ترقد تحت جدار القصبة القديم والعالي، وهناك امرأة تبيع "الملاوي" (خبز مخبوز بالزيت)، كانت مغلقة أبوابها، لم يحن وقت عملها، تابعت ممشاي بين بسطات الفواكه والخضر وبائعي الخردة والمتسوّلين. عدتُ إلى بائع الزعتر، وقفت لحظات، تأمّلت هيئته، وكان معه تين، لم أسأل عن نوعه، وندمت. عيناه خضراوان مثل لون الزعتر الذي ربما حمله على كتف، وكيس اللوز "الفركي" على كتف آخر. لم أتجرّأ على سؤاله: من أين لك كلّ هذا؟ لوز وزعتر وتين قد قطف في الصباح، ولماذا جئت به إلى مدينتنا؟.

سألته أن يضع لي ببضعة دراهم معدودة كمشة من الزعتر، وإذا به يحفن بأصابعه الطويلة زعتراً كثيراً ولا يوزنه ويضعه في كيس أبيض. لقد أكرمني لصيفي وشتائي. صيف برائحة الزعتر البرّي الذي ارتخت على ورقاته حبّات الندى وهي ناعسة لم تتفتح في الصباح، ونمت وحدها في العراء.

عدت إلى البيت: هل أعدّ السمك مع حفنة من الزعتر؟ وأنتفي ما كتبته خلال الأيام الماضية وعلّقته على الحائط؟ هل أعدّ قائمة أصدقاء وكلّ فرد منهم أخبره عن الزعتر أو السينماتك؟ أم أنّ الحياة تمنحنا الآن أفقاً لا نتوارى خلفه، بل يكرمنا بخواصّ لنا أن نختلف فيها عن الكثير؟، هل البرزخ في طنجة يكفي لكل هذا؟.

اقرأ أيضاً: مهرجان "البرزخ" في طنجة: ورشة فنية بين قارّتين وعالمين
المساهمون