برامج السخرية... عن الضحك في اليمن الحزين
في البداية، جاءت برامج النكات والسخرية في اليمن قبل إعلان الوحدة بين الشطرين الجنوبي والشمالي صباح الثاني والعشرين من مايو/أيار 1990. تصدّت تلك البرامج للسخرية من الجهة التي تخصها، وتقوم بتشريح حالة المجتمع، ولو كان ذلك على نحو ساذج وبسيط. لقد أنتجوا في الجنوب سلسلة كوميدية اسمها "بشبوش وأبو الريش"، من بطولة الفنان المسرحي الراحل أبو بكر القيسي. وهو عمل أقرب ما يكون إلى دراما مخصصة للأطفال، وكان القيسي من الأساس صاحب الفضل الأول في إنشاء مسرح الطفل في اليمن الجنوبي، إضافة إلى تأسيسه مسرح الدمى. من هنا، جاءت السمة الغالبة للعمل، بذلك المزيج الخفيف بين السخرية من أحوال المجتمع وتقديم نقد ونصائح للفئة الأصغر عمراً في الجنوب.
أمّا في جهة الشمال؛ فكان مسلسل "دحباش" لصاحبه الفنان آدم سيف والذي صار اسم "دحباش"، لاحقاً، ملتصقاً به طوال سنوات عمره التالية، كما أنه الاسم الذي سيطارده ويعمل على قتل حياته الدرامية ويصبح عاطلاً عن العمل.
وفكرة العمل ساخرة وإن جاءت على نحو اعتباطي، وكأنها تقول بحقيقة عكسه سلوك الشارع اليمني الشمالي. لهذا تمّ إيقافه، والتهمة: الإساءة لصورة الشخصية اليمنية. لكن اتضح لاحقاً أن القصة أكبر من قصة تهمة، إذ لم تبخل السياسة في تسميم الحياة الاجتماعية اليمنية.
الشمالي والجنوبي
حين بدأت النتائج السيئة لإعلان الوحدة اليمنية يوم الثاني والعشرين من مايو 1990، تخرج إلى الضوء وتقول بنفسها بدأ الناس، شمالاً وجنوباً، بشتم كل واحد منهم الآخر. يقول الشمالي للجنوبي: "يا أبو الريش"، في حين يرد الجنوبي: "يا دحباشي". صارت تلك الأعمال الدرامية مسبّة في حق الناس وإهانة وتحقيراً. لم يكن الرئيس الراحل علي عبدالله صالح بريئاً من كل ذلك، وهو الذي سلك منهجاً أمعن في سلب أهل الجنوب حقوقهم وجعلهم يظهرون كأنهم شعب واقع تحت الاحتلال الشمالي.
على هذا، انطلقت حفلة الشتائم المتبادلة ومهرجان التحقير، ولم تتوقف إلى اليوم، بل زادت وتكاثرت مع تنامي عدد الفضائيات اليمنية، وصار لكل جهة وطائفة وحزب شاشاتها الخاصة، إذ تقوم هذه الفضائيات بتوجيه ما يحلو لها من شتائم وتحقير بحق الجهات الأُخرى.
شاشات طائفية
الحروب الداخلية الأهلية تفضح أصحابها وتُظهر ما كان مخفياً تحت الجلد لأعوام طويلة. تلك الحروب تزيح الغطاء الخفيف الذي كان عليها. ومن حسنات انتشار الشاشات الفضائية اليمنية، التي تبث من داخل اليمن ومن خارجه اليوم، أنها تبدو كاشفة على نحو واضح لحالة التشظي الحاصلة في بنية المجتمع بأكمله. وهنا، في ما يلي، مجرد أمثلة:
حالة الفنان الشعبي الكوميدي محمّد الأضرعي المولود في منطقة ذمار (جنوب صنعاء)، وهي المدينة المشهورة بقدرة أولادها على اختراع النكات والقدرة على السخرية من كل شيء. افتتح الأضرعي حياته منشداً دينياً، ثم انتقل ليصير لساناً شعبياً يقول بأوجاع الناس. كان صوته معارضاً بقوة نظام علي صالح عبر شرائط بلا موسيقى وتحمل سمة إنشادية احتراماً للحزب الديني الذي ينتمي إليه. شرائط أصدرها على نحو متتابع منذ عام 1997 وحتى قيام "الربيع اليمني". ومنها "أنا الشعب"، و"أنا حر"، و"هات حقي". وبسبب كل هذه الإصدارات، تعرّض للاعتقال غير مرّة. لكن حصل أن اجتاحت جماعة الحوثي صنعاء والكثير من المدن اليمنية. اضطر الأضرعي إلى الرحيل من اليمن، وبث برامج ساخرة عبر قناة "سهيل" التي يملكها الشيخ اليمني والملياردير حميد الأحمر. أنتج لنفسه برنامج "غاغة"، وهذه التسمية تعني باللهجة اليمينة المحلّية: الفوضى، العبث، الشيء الذي لا معنى له، جاءت مفردة: غوغائية.
وجد البرنامج شعبيته، وهو يبث في كل شهر رمضان. لكن المعضلة بقيت في الإشارات الطائفية الخطيرة التي يقوم بإصدارها. احتقاره المذهب الشيعي /الزيدي الذي تدين به أعداد غير قليلة من أهل اليمن في الشمال. تسفيه من ينتمون إلى ذلك المذهب، وكأن كل أهل الشمال من التابعين لجماعة الحوثي. إنها طريقة عجيبة ومحزنة في التعامل مع هذا الملف الديني الشائك.
من اليسار إلى اليمين
حالة شاب يمني ينتقل باستمرار من جهة إلى غيرها، من اليسار إلى اليمين طوال حياته الناشئة، ليقيم أخيراً في حضن قناة "الساحات" التي تبث من بيروت وتسير على خُطى جماعة الحوثي. اسمه عبد الحافظ معجب ولديه برنامج اسمه "مع الخبر". لا يبخل هذا الشاب في قول أيّ شيء ضد أيّ جهة مخالفة لتوجه الحوثي، لكن بلسان يقول بكلمات يخجل المشاهد البسيط من سماعها وهو بين أُسرته. بمعنى: سنرد عليكم بالسفاهة. والغريب أنه يحظى بمشاهدة لافتة، مثله مثل الأضرعي. كأن الحياة في اليمن صارت مقسومة بين شاشة طائفية لا تُعطي درجة لاحترام معتقدات الناس، وأُخرى سفيهة يمكنها الخوض في أي شيء ولا شيء يمنعها عن أيّ قول.
من قال إن الحروب الأهليّة يمكن أن تصدر عن طلقة رصاص واحدة. يمكنها أيضاً أن تندلع من كلام يُقال على الشاشات.
المساهمون
المزيد في منوعات