بدون في أوروبا[4-4]...انزلاق فرنسي باتجاه سياسات اليمين المتشدد في ملف سحب الجنسيات

28 مايو 2019
قضية سحب الجنسيات أدت لانقسام يساري في فرنسا(Getty)
+ الخط -

يردد جمال الغوراري العضو في الحزب الاشتراكي الفرنسي، مقولة قديمة منسوبة للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران مفادها أن "الفرنسيين شعب محافظ، ويميني" في معرض تعليقه على دعوات سحب الجنسيات المتزايدة في البلاد، قائلا: "ما يحدث من تشدد لا ينبغي النظر إليه باعتباره استثناء. ففرنسا قمعت التظاهرات أثناء حرب الخليج الأولى، ورحّلت مواطنين عربا، دون محاكمة. وغالبا ما تستغل العلمانية ومبدأ مساواة الرجل والمرأة حين يتعلق الأمر بمواطنين مسلمين، والأمثلة كثيرة منها حظر الحجاب في المدارس ثم حظر النقاب في الشارع، وغيرها. لكن ما يخص بعض القوانين الأوروبية المُلزِمة حقوقيا، تجد رد فعل فرنسا هو رفض التصديق عليها، أو أنها تُشهر الخطر الذي تتعرض له وواجب حماية مواطنيها. وهذه المواقف التي تتناقض مع شعارات حقوق الإنسان وحرية التعبير، تلقى احتضانا شعبياً يدفع بعض الساسة للمطالبة الصريحة بالتخلص من مواطنيهم في العراق وسورية، بدل استعادتهم ومحاسبتهم".

بالفعل فإن تتبع النقاشات التي شهدتها فرنسا بعد الاعتداءات الإرهابية التي تعرضت لها البلاد في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2015، يوضح مدى تفاعل الحكومة مع دعوات تجريد مواطنيها من الجنسية، والانزلاق نحو سياسات يمينية متشددة، لم تتوقف على قضايا الإرهاب، مع وصول الرئيس إيمانويل ماكرون للحكم في مايو/أيار من عام 2017، إذ يجاري رأياً عاما متشددا تجاه الإسلام والمسلمين. ولعل ذروته تكمُن في رفض استعادة أكثر من مائتين من مواطنيه، سجناء في سورية، بينهم نساء وعشرات من الأطفال وفق ما تؤكده مصادر التحقيق. 



تاريخ عمليات سحب الجنسية الفرنسية

تعود أول إشارة إلى سحب الجنسيات تاريخياً، كما يوضح المؤرخ الفرنسي المتخصص في الهجرة، إلى دستور 3 سبتمبر/أيلول 1791 والذي يتحدث عن حالة "صدور أحكام ضد التخريب المدني، مادام أن الشخص لم يُردَّ له الاعتبار"، قائلا بعد ذلك "ظهر سحب الجنسية في مرسوم إلغاء الرق سنة 1848 الذي يحرم على كل فرنسي امتلاك أو المتاجرة بالعبيد تحت طائلة "فقدان صفته كمواطن فرنسي".

وتم سحب الجنسية خلال الحرب الكونية الأولى 549 مرة حسب ما قررته قوانين الحرب. وفي الحرب الكونية الثانية، أتاح مرسوم-قانون 9 سبتمبر/أيلول 1939 بصفة استثنائية، سحب الجنسية عن فرنسيين، إذا ما "تصرفوا وكأنهم من رعايا قوة خارجية"، وهو ما تعرض له سياسيان فرنسيان، وهما نائبان برلمانيان شيوعيان، أندري مارتي، في 27 يناير/كانون الثاني 1940، وموريس توريز، في 17 فبراير/شباط 1940، والتهمة هي خضوعهما للاتحاد السوفياتي الذي كان حينها مرتبطا بألمانيا النازية في إطار المعاهدة الجرمانية السوفياتية. وقد ظل الرجلان بلا جنسية عدة سنوات.

وفي عام 2007 صدرت أحكام على خمسة من حملة جنسيتين بسبب مشاركتهم في جماعة إجرامية قصد الإعداد لعمل إرهابي متعلق باعتداءات الدار البيضاء 2003، وسحبت منهم الجنسية الفرنسية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2015، وأكدت "المحكمة الإدارية العليا" الحكم وفي حزيران/يونيو 2016، رافضة اعتراضات المحامين، وعزت الأمر إلى "طبيعة وخطورة الأعمال الإرهابية التي تم ارتكابها".

وشهدت فترة حكم نيكولا ساركوزي (2007-2012) هدنة في سحب الجنسيات، ثم عادت سنة 2013 أثناء فترة حكم الرئيس المنتمي إلى الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند، وأول من دفع الثمن هو الفرنسي المغربي أحمد سحنوني اليعقوبي، الذي أوقف في 30 إبريل/نيسان 2010 بتهمة التخطيط لاعتداءات ما بين 2007 و2010 في فرنسا ثم أيد المجلس الدستوري القرار في 23 يناير/كانون الثاني 2015، ثم "المحكمة الإدارية العليا" في 11 مايو/أيار 2015، ليطرد في 22 أيلول/سبتمبر 2015. وتزايد الجنوح نحو تشجيع الظاهرة، في مرحلة ما بعد اعتداءات باريس الإرهابية سنة 2015 إذ أعلن الرئيس هولاند، عن رغبته في أن يشمل سحب الجنسية الفرنسية مزدوجي الجنسية، الذين وُلدوا فرنسيين.


المعنيون بإجراءات سحب الجنسية

سحب الجنسية لا يقتصر على حالات الإرهاب، فقط. كما يجب التمييز بين مسألتين، سحب الجنسية أو رفض منحها. ووفق وزارة الداخلية الفرنسية فإن نصف عدد من جرّد من جنسيته الفرنسية، منذ سنة 1973، كان لأسباب إرهابية، أي 13 من بين 26 شخصاً. إذ إن "القانون المدني ينص على إمكانية سحب الجنسية لأسباب أخرى، كـ"انتهكاك المصالح الأساسية للأمّة" في حين أنه ترفض عشرات الطلبات لأسباب تتعلق بالاندماج والعلمانية"، كما تلخص لنا الأمر المحامية وعضوة مجلس الشيوخ السابقة عن حزب "الخضر" عالمة بومدين.

وينص القانون المدني على إمكانية سحب الجنسية لأسباب أخرى، كـ "انتهاك الإدارة العمومية من طرف أشخاص يمارسون الوظيفة العمومية، والتملص من واجبات قانون الخدمة الوطنية، والقيام بأفعال ضارة بمصالح فرنسا، لفائدة دولة أخرى". وهنا كمثال الإمام إلياس حسن، من أصول جزائرية، اتهمه تقرير للاستخبارات بالتفوه بكلمات تشكل اعتداء على الأمن القومي، وسحبت منه الجنسية سنة 2006 وأكد "مجلس الدولة" القرار، سنة 2008، ولكن تدخل وزيرة الداخلية، ميشيل أليو-ماري حال دون تسفيره. وأيضا حالة الممرضة من أصل روماني، روديكا نيغرو، التي جردت، سنة 2002، من الجنسية الفرنسية، التي حصلت عليها بفضل الزواج، بعد أن حكم عليها، سنة 1999، بالسجن عشرين عاما، بعد أن قتلت زوجها، بالسم البطيء، منذ زواجهما سنة 1985. ثم حالة فردريك مانفيل، الذي سحبت منه الجنسية، سنة 2007، بسبب زواجه من رجل في هولندا، قبل أن يُشرَّع زواج المثليين في فرنسا. ولكنه استعاد جنسيته الفرنسية، سنة 2008، بعد حملة تعبئة قوية، وأيضا بفضل تدخل الإيليزيه.

والحكومة هي من يتخذ قرار سحب الجنسية من مواطن ما، عبر مرسوم. وهذا المرسوم يجب أن يحظى بموافقة "المحكمة الإدارية العليا". وثمة شرطَان لتجريد الفرد من الجنسية الفرنسية، وهما أن يكون الشخص مزدوج الجنسية، فالقانون المدني، منذ 1998، يحظر تجريد شخص من الجنسية إذا كان سيصبح عديم الجنسية، كما يجب على الشخص أن يكون قد حصل على الجنسية قبل عشر سنوات. وأما الأشخاص الذين ولدوا فرنسيين، فلا يمكن تجريدهم من جنسيتهم الفرنسية حتى ولو كانوا من حملة جنسيتين اثنتين. وهو موقف تقول بومدين إنه "ينسجم مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فلا مكان لعديمي الجنسية. ومع المادة 15 التي تنص على أن "كل فرد له الحق في جنسية. ولا أحد يمكن أن يُحرَم، اعتباطياً، من جنسيته، ولا من حق تغيير الجنسية".




تضمين "سحب الجنسية" في الدستور

وعد الرئيس السابق هولاند، في 16 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2015، بتعميم سحب الجنسية عن الفرنسيين من أصول أجنبية الذين ولدوا في فرنسا والمتهمين بالضلوع في قضايا الإرهاب بعدما كان القانون يحصرها في الحاصلين على الجنسية الفرنسية المولودين خارج فرنسا، وذلك خلال خطابه افي قصر فرساي ثلاثة أيام بعد اعتداءات الجمعة السوداء أمام مجلس النواب بغرفتيه في قصر فرساي.

خطاب هولاند جاء بعد أن عاشت فرنسا سجالا كبيرا بعد الاعتداءات الإرهابية التي وقعت في عام 2015، إذ أراد هولاند، سنّ قانون جديد من أجل إبعاد التهديد الإرهابي عن البلد، وتضمين "سحب الجنسية" في الدستور للمدانين بارتكاب أعمال إرهابية. وأرادت الحكومة أن يشمل الأمر من له جنسية واحدة ومن له أكثر من جنسية. وصوّت مجلس النواب بأغلبية 317 ضد 199 على مشروع القرار. وكذلك الأغلبية اليمينية في مجلس الشيوخ بـ178 ضد 159 نائبا، ولكنها عدَّلت النص بحيث إنه يقتصر على "سحب الجنسية من مزدوجي الجنسية من أجل تجنب خلق عديمي الجنسية". وهو ما أفشل النص ولم يتم جمع المجلسين معا لتصويت نهائي، لأن النصّ الذي صوّتت عليه الغرفتان ليس متجانساً. وهو ما قاد الرئيس لسحب مشروع قانونه، يوم 30 مارس/آذار 2016.

وعاد الجدل ولا يزال، مع قضية "جهاديي" فرنسا وأبنائهم في سورية، إذ ترفض الحكومة، مدعومة برأي عام معارض وبقرار من المحكمة الإدارية العليا، عودتهم إلى فرنسا. وهو موقف لا يختلف عن بعض جيران فرنسا، كما يقول لـ"العربي الجديد"، الأكاديمي والباحث في وزارة الدفاع الفرنسية إليامين ستول، ويضيف "قد تَقبل الحكومة عودة بعض الأطفال، وقد فعلت، ولكنها لا تريد إغضاب رأي عام معارض".

وعلى الرغم من ارتفاع أصوات محتجّة كما قال مضيفا: "صحيح أن أحزاب اليسار والخضر والمنظمات الحقوقية تريد استعادة فرنسا لمواطنيها ومحاكمة المتورطين منهم، ولكن النظام اختار السير في اتجاه الغالبية. حتى لا تبدو المعارضة اليمينية وحدها من تتماهى مع الأغلبية".

ويستطرد "ليس سرا أن فرنسا تنتهك الحقوق والمواثيق الدولية والأوروبية، باسم الدفاع عن الأمن الوطني وسلامة مواطنيها. وقد عانى الفرنسيون مما يسمى بقانون الطوارئ، الذي انتقدته منظمات حقوقية فرنسية وأوروبية وأممية، والذي نجم عنه اعتقال العشرات من مسلمين ومن نشطاء سياسيين ونقابيين، ووضع آخرين تحت الإقامة الجبرية، ورصد وتتبع آلاف من من أبناء الجاليات العربية والإسلامية من حَمَلَة الجنسية الفرنسية بشبهة التطرف، والذين يعانون من هجمات غير مسبوقة تشكك في وطنيتهم واقتناعهم بمبادئ الجمهورية، خصوصاً بعد اعتداءات يناير/كانون الثاني ونوفمبر/تشرين الثاني 2015".

وهو رأي تؤيده عالمة بومدين، التي ترى أن "فرنسا تتجه أكثر فأكثر نحن اليمين". وتضيف أن "اليمين الفرنسي أراد أن يشمل القانون الجديد، ثنائيي الجنسية، فقط، وهو ما يطرح سؤالا حول المواطَنَة، حين يتعلق الأمر بمهاجرين ومن ثم مسلمين"، ولا تخفي أن "مواقف بعض نواب اليسار الفرنسي، المُعارِضين لمشروع القانون، وأيضا استقالة وزيرة العدل، كريستيان توبيرا، ساهمت في إقبار مشروع القانون بعد أن كانت سبّاقة في انتقاد الفكرة، واعتبرتها ضربة في الصميم لحق الأرض، الذي يمنح حق التمتع بالجنسية لأي شخص وُلد على التراب الفرنسي، وهو المبدأ الذي يُعتبر خطاً أحمر في أدبيات اليسار الفرنسي، لكنها لم تنجح في إلغاء القرارات المتشددة، خاصة الصلاحيات التي منحت للقوى الأمنية، دون محاسبة تجاوزاتها، التي فضحها ضحايا مسلمون مدعومون بمنظمات حقوقية".


انقسام اليسار

جاءت الاتفاقية الأوروبية المتعلقة بالجنسية سنة 1997، لتحدد الفقرة الأولى من المادة السابعة، حالات سحب الجنسية، وبحسب الفقرة 2 من المادة الخامسة فإن "أي دولة موقعة على الاتفاقية يجب أن تسترشد بمبدأ عدم التمييز بين رعاياها، سواء كانوا رعايا بالمولد أو حصلوا على الجنسية، لاحقا"، وبالرغم من أن فرنسا وقعت على الاتفاقية سنة 2000 ولكن لم تصدق عليها بعدُ، خلافا لعدد كبير من البلدان الأوروبية. 

ويرى إليامين ستول أنه "ليس ثمة شكّ في أن مواقف اليمين الفرنسي أثناء النقاش، كانت تستهدف الفرنسيين من أصول إسلامية"، ولكنه يستدرك: "ثمة يساريون رفضوا الخضوع للتسرع كما رفضوا انتهاك الحقوق في بلد حقوق الإنسان والمواطن، دفاعاً عن إرث فرنسا وتاريخها، ولكن يساريين آخرين أيدوا سحب الجنسية، لأن فرنسا كانت في حالة انفعال كبير، وفي ظل الانفعال تتخذ قرارات غير مدروسة كما فعلت أميركا بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001، ولكن يُحسَب لهم أنهم طالبوا بسحب الجنسية من كل فرنسي مذنب، سواء كانت له جنسية واحدة أو أكثر، وهذا فيه نوع من الإنصاف، ولو أن المعنيين بالأمر مسلمون، بعضهم معتنقون جدد".


سلاح الاندماج والعلمانية لسحب الجنسية

إذا ابتعدنا عن ميدان الاتهام بالإرهاب، حيث "المسلمون هم ضحاياه الرئيسيون"، كما يقول لنا الأكاديمي والخبير الاقتصادي الفرنسي علي بوكبّوس، فإن القضية التي أثارت الجدل، مؤخرا، هي سحب الوزارة الأولى الجنسية من مواطنة جزائرية رفضت مصافحة مسؤولين أثناء حفل تسلم الجنسية في يونيو/حزيران 2016. فقد قررت الحكومة ذلك وأيدتها المحكمة الإدارية العليا بتاريخ 11 إبريل/نيسان 2018.

وإذ ينتقد بوكبوس قرار سحب الجنسية، إلا أنه لا يفاجَأ به وبالمبررات، "ففرنسا تَستخدم سلاح الاندماج والتذويب للتمييز بين المواطنين. فرئيس الحكومة يرى في تصرف السيدة، في مكان وزمان رمزيَيْن، دليلا على عدم ذوبانها في المجموعة الوطنية، ويأتي حكم المحكمة ليؤيده، وليؤكد أن من حقه الاعتراض على الجنسية في غضون سنتين، بسبب عدم أهلية أو صعوبة في الاندماج". ويضيف: "استغلت المحكمة الإدارية العليا عدم انقضاء سنتين على منح السيدة الجنسية، لتؤكد أن الأمر لا يتعلق بسحب للجنسية". وتداركاً لأي تفسير ديني شدَّدَ حُكم المحكمة على أن الأمر ليس فيه "مساس بالحرية الدينية للمعنية بالأمر".

ويستذكر بوكبوس قضايا أخرى، تم نسيانها، و"منها رفض منح الجنسية، سنة 2008، لسيدة مغربية ترتدي النقاب، وهو ما أثار جدلا تمخض عنه صدور قانون يحظر النقاب في الأماكن العامة، ثم تأييد المحكمة الإدارية العليا يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، لقرار رفض منح الجنسية، لمغاربي تزوج فرنسية بمبرر "عدم الاستيعاب"، وبررت المحكمة قرارها بأن الشخص "يرفض قبول القِيم الأساسية للمجتمع الفرنسي، وخاصة المساواة بين الرجال والنساء"، وارتكزت على تصريحاته ومنها أن "زوجته يجب أن ألا تَرى وألا تُرى إلا من طرف قليل من الناس، حتى لا تقع في الإغواء".

وهنا يجب التمييز، كما تقول لنا المحامية عالمة بومدين، بين شيئين، في القانون الفرنسي: "سحب الجنسية أو رفض منحها، لأنه في غضون سنتين يمكن أن يُرفَضَ منحُها"، وتُحصي المحامية في هذا الإطار ما يقرب من 10 حالات سنويا، حيث "تُرفَض لسببين: التعرض لأحكام جنائية كبيرة، أو عدم الاندماج، إمّا برفض تعلم اللغة أو رفض القيم الأساسية للمجتمع الفرنسي".