بحثاً عن متعب الهذال

18 اغسطس 2014
+ الخط -

تقدم رواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف نموذجاً غير مسبوق لتحول المجتمع العربي من عصر الانغلاق إلى عصر الانفتاح على الآخر، وقد وضع منيف مدينتي "وادي العيون" و"حران" كنموذجين مصغّرين رصد من خلالهما ديناميكية هذا التحوّل التاريخي الذي استتبع في فلكه تحولات الشخصية العربية كلازمة مهمة لتحولات المكان.

لقد قاسى المجتمع العربي معاناة وشظف هذا التحوّل القسري إلى مستقبل مجهول والانصراف عن مرابع الصبا وذكريات الطفولة وموطن الأجداد. وفي هذا السياق، تلعب شخصية "متعب الهذال" في الرواية دور المتوجّس من الآخر والمرتاب من كل جديد، فيسرد الروائي كيفية وقوفه في وجه الأميركيين الذين جاؤوا بمعداتهم وآلاتهم للتنقيب عن النفط، بتنسيق مع السلطات الرسمية آنذاك. وقد بدا "متعب الهذال" غاضباً ومتوعداً وشاتماً الأميركيين في أول الأمر، قبل أن يتحوّل حنقه إلى قلق ويأس وصمت إثر تخاذل رجال القرية تجاه هذا القادم الغامض، فيغادر في ظل صمت رهيب وحزن تاركاً خلفه الأهل والأرض دون أن يكون لرحيله وجهة محددة.

ولا عجب في تمكّن منيف من رصد التحولات الإنسانية والمتغيرات البيئية، ومن تخليد مرحلة مهمة من مراحل المجتمع العربي بدقة متناهية، وهو الذي عاش جزءاً من هذه التحولات. كما لا عجب في جواب صديقه الكاتب جبرا إبراهيم جبرا على إرسال منيف له روايته فور الانتهاء من كتابتها:

"لا أظن أن كاتباً عربياً ـ روائياً أو غير روائي ـ كتب في الماضي شيئاً يقارب ما كتبتَ في هذه الرواية. وبعد أن كتبتها لا أظن أن كاتباً سيجرؤ على أن يكتب شيئاً مثلها في المستقبل. في الرواية نفس ملحمي لا أعرف مثله في أي عمل روائي عربي. إنه يذكّرني بالروايات الكبرى التي كتبت في الغرب في النصف الأول من هذا القرن. التأني، الاسترسال، الاتساع المستمر.. الانتقال الصعب والموجع من البداوة إلى النفط، أمور لم يلتفت إليها جدياً أحد، أو لم يرها بهذا العمق، وهذا الحب، وهذه اللوعة".

عانت أسرة "متعب الهذال" بعد رحيله المفاجئ أتعاب هذا الغياب الطويل والغامض، إلى جانب ما تضيفه الحياة من قسوة في العيش، فغادرت "وادي العيون"، ما ضاعف من آلامها، علماً أن شخصية "شعلان"، ابن متعب، كانت أكثر قبولاً وتماشياً مع هذه التحولات وتأقلمت مع الوضع الجديد.

دون أسباب واضحة تستدعي شخصية "متعب الهذال" من التاريخ العربي شخصية "زرقاء اليمامة" التي تحذّر بدورها قومها من خطر قادم في المستقبل. وتكاد تتطابق هاتان الشخصيتان في مصير كل منهما. فها هي زرقاء اليمامة تلقى مصيرها باقتلاع عينيها إثر رفض قومها الإصغاء إلى حديثها، وها هو "متعب الهذال" يقرر، إثر رفض قومه الإصغاء إلى تنبؤاته، الاختفاء بطريقة غامضة.

إلى جانب "متعب الهذال"، تظهر في "وادي العيون" امرأة باسم "نجمة المثقال" تحذّر بدورها، داخل هذيانها، من مستقبل مجهول، فترفع حالة القلق وتكسر حالة الرضا والاطمئنان لدى أهل القرية وتحويل جو الرواية إلى توجس من الآتي وخوف من المستقبل.

رغم واقعية الرواية أسلوباً وموضوعاً إلا أن هاتين الشخصيتين تشكلان في طبيعتهما وسلوكهما خروجاً عن هذه الواقعية، وحالة رفض وممانعة غريبة أمام التحولات التي ابتهج لها أهل القرية. وكأن كلّاً منهما يلعب دور رَاءٍ يكشف المستقبل ويرى أهوال ما سيحدث. كما تمثل شخصية "متعب الهذال" البذرة العربية الدفينة التي تقاوم كل محاولات الآخر للاختراق والهيمنة والسطوة وفرض الوصاية، وحجر عثرة أمام الخوض في الآخر والإبحار فيه.

ولدى تعرُّف أهل القرية التدريجي إلى أدوات التكنولوجيا، من آلات ومعدات وحفّارات ورافعات، يقوم منيف بتعريف كل آلة بدقة متناهية متوقفاً ملياً عند انبهار الإنسان العربي آنذاك بطبيعتها ووظيفتها.

وفي هذا السياق، يصف بذكاء اللحظات الأولى لرؤية المنظار ثم المذياع، ويرصد طريقة تعامل الإنسان البدوي مع هذين الجهازين وما يتبعها من أسئلة بدائية. إذ يسأل أحد الحاضرين في مجلس الأمير، لدى وصول المذياع ورؤيته لأول مرة: ماذا يأكل هذا المذياع وأين يجلس هذا الذي يتكلم داخله. كما قام الأمير ورجاله بحركات غريبة وفزعة إثر اندلاع صوت المذياع، وكأن كارثة ما ستحدث، وبأخرى طفولية حين سألوا عن موعد نوم مَن يتكلم داخل صندوق المذياع. سلوك يشي باندهاش كبير بمفردات هذه الحياة الجديدة.

وفي طياتها، تحمل رواية منيف أيضاً الجانب الآخر والسلبي من حضارة الآخر، كالتمايز في الطبقات الاجتماعية والانقسام وتسلط الطبقة الرأسمالية وتركيز السلطة والثروات. وقد استطاع أن ينفذ إلى عمق هذه الإشكالية الحضارية من خلال مصير السائقين "راجي" و"آكوب" اللذين سيقعا ضحية الرأسمالية التي ستدخل مع الأميركيين المجتمع البدوي فتُطبِق على الطبقات الضعيفة والفقيرة وتحوّلها إلى هامش وأداة استخدام. وقد وضع "راجي" تعبيراً يشفّ عن هذه الحقيقة المُرّة التي لم يتنبه إليها أهل حرّان، بتشبيهه الضعفاء والفقراء بأسماك صغيرة تبتلعها أسماك كبيرة.

ولم تكن الأسماك الكبيرة غير "رضائي" الذي استورد مجموعة باصات كبيرة ومريحة وفتح شركات نقل تمارس أسعاراً زهيدة، ما جعل أهل المدينة يتخلون عن راجي وآكوب وشاحنتيهما المهترئتين، فضاقت فرص عيشهما ثم فقدا عملهما، قبل أن يتوفى آكوب بظروف مؤلمة. ولأن ثمة حيتان أكبر من أي سمكة، سيتحوّل سوق "رضائي" بدوره إلى كساد ويواجه مصير "راجي" و"آكوب"، بعد فتح "ابن النقيب" شركة كبرى للنقل.

ولا ينسى منيف الزمن المتسارع الذي شكّل عاملاً مهماً في تشتيت الذاكرة الجمعية لأهل "وادي العيون" وفي نسيان تاريخ الأجداد. إذ ستتفكك عرى ارتباطهم بالماضي أمام ماكينات التكنولوجيا التي تختزل الزمن والمسافات وتحوّل الماضي من مادة تشكّل الحاضر إلى مادة للذكرى والحنين.

وشيئاً فشيئاً يصوّر منيف عملية ذوبان المجتمع البدوي في ثقافة الآخر، كاشفاً كيف سيصبح المسكوت عنه بالأمس حديث اليوم، كما هو الحال بالنسبة إلى موضوع الجنس. فبينما كان أهل حران يتجنّبون الحديث في بادئ الأمر عن مشاكلهم الجنسية إلى الطبيب "صبحي"، لن يلبثوا أن يتناولوها علناً، بعد أن كانت تدور سرّاً في المجالس الخاصة.

أما سؤال الوجود المستقبلي لأبناء الصحراء على أرضهم فيلقي بظلاله على المشهد الروائي برمته ويحشد الروائي له ظواهر طبيعية غريبة كثيرة، مركّزاً على مظاهر التحول الاجتماعي والفروقات الأساسية في المسكن والملبس والمركب والخدمات والرفاهية، بين الأنا والآخر، التي ستكون السبب في نشوء سؤال الخصوصية العربية، وبالتالي في ارتفاع حساسية أهل حران تجاه الأميركيين وثورتهم على الوجود الأميركي في نهاية المطاف.

وفي هذا السياق، يضفي ظهور "متعب الهذال" الاستيهامي في الجزء الأخير من الرواية، كمنقذ وحيد يبعث سؤال الهوية ويثير تساؤل العربي حول الذات والآخر، جواً من الواقعية السحرية على النص.


* كاتب من اليمن

المساهمون