في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2013، عندما تولى قائد الجش السابق الجنرال المتقاعد راحل شريف، مهامه كقائد للجيش وعد آنذاك بوضع حد لسياسة الجيش السابقة وهي الاستيلاء على الحكم، مشدداً على تأييد المؤسسات السياسية في البلاد بهدف مواجهة ملفات اجتماعية وسياسية واقتصادية، لا سيما الأزمة الأمنية. وقد استطاع بفعل سياسته أن يسيطر على الوضع الأمني، ويحسّن علاقة الجيش مع الأحزاب السياسية، لا سيما حزب الرابطة الإسلامية الحاكم بقيادة رئيس الوزراء السابق نواز شريف.
آنذاك حاولت عناصر مهمة في الاستخبارات وفي الجيش أن تعكر صفو العلاقات بين الجيش والحكومة، إلا أن قائد الجيش وقف في وجه كافة تلك المحاولات، خصوصاً التي كانت تحثّ الجيش على السيطرة على الحكم. لم يقف الجنرال راحل شريف عند هذا الحد، بل غير سياسة الجيش بكاملها نظراً لما تواجهه باكستان من ملفات مهمة والتغيرات التي شهدتها المنطقة. كان للتقارب الأسري بين "الشريفين"، قائد الجيش راحل شريف ورئيس الوزراء المقال نواز شريف، تأثير كبير في ذلك.
رغم ذلك كان الظن السائد هو أن حركة الإنصاف بزعامة عمران، المقرب من الاستخبارات والجيش، ستحكم البلاد في الفترة المقبلة، إذ كان لعناصر في الجيش والاستخبارات دور في انشقاق قياديين من أحزاب أخرى، وفي الغالب من حزب الشعب الباكستاني الذي يقوده الرئيس السابق آصف علي زرداري وبعض القياديين من حزب الرابطة بزعامة نواز شريف، وكل هؤلاء انضموا إلى حركة الإنصاف.
لكن ظهر أن الجيش غير سياسته بعد أن تقاعد راحل شريف وتولى قيادته الجنرال قمر باجوه. وكانت ملاحقة الأحزاب السياسية، تحديداً الحزب الحاكم ورئيس الوزراء السابق المقال بحكم المحكمة العليا في قضية فساد أوراق بناما، المرحلة الأولى لتلك السياسة. في البداية رحب جميع السياسيين بتلك الخطوة ظانين أنها بداية لمحاربة الفساد ولكن سرعان ما تبين أن السبب في إبعاد شريف وأسرته من الحكم يعود إلى كونه يعارض سياسة الجيش، خصوصاً في ما يتعلق بدول الجوار.
لم تنتهِ تلك المرحلة وتأثيراتها على الساحة السياسية الباكستانية حتى بدأت المرحلة الثانية، وهي تشكيل تحالفات جديدة للأحزاب السياسية والدينية، لها هدف مزدوج. ويتمثل هذا الهدف بالوقوف في وجه جماعات كبيرة يمكنها معارضة الجيش في سياساته، كحزب الشعب الباكستاني وحزب الرابطة الإسلامية، وتمكين الجيش والاستخبارات من العمل بحرية في ما يتعلق بملفات مهمة تشهدها المنطقة ودول الجوار تحديداً.
تحالفات ثلاثة
خلال الأيام العشرة الماضية تم الإعلان عن تشكيل ثلاثة تحالفات جديدة، اثنان منها سياسيان فحسب، أما الثالث فله طابع ديني وسياسي.
التحالف الأول عقد بين حزبين لعرقية المهاجرين، وهم من هاجروا إلى باكستان من الهند عند انفصالها في عام 1947. في البداية كان لهم حزب واحد وهو الحركة القومية المتحدة بزعامة إلطاف حسين، المتهم من قبل الاستخبارات الباكستانية بالعمل لصالح الاستخبارات الهندية، والذي يعيش في المنفى منذ أكثر من عقد. انقسمت الحركة بحكم الخلافات الداخلية إلى أحزاب عدة أبرزها الحركة القومية نفسها، إذ تمكنت الاستخبارات من عزل إلطاف حسين وتعيين الدكتور فاروق ستار بديلاً عنه، وحزب باكستان سرزمين، حزب الوفاء للأرض الباكستانية بقيادة رئيس بلدية كراتشي السابق مصطفى كمال، وهو قيادي سابق في الحركة القومية انشق عنها قبل فترة ثم انقلب على رئيسه السابق إلطاف حسين. وحصل التحالف بين الجماعتين بيد عناصر في الاستخبارات كما اعترف مصطفى كمال في حوار له مع قنوات محلية.
أما التحالف الثاني فهو تحالف أحزاب سياسية يصل عددها إلى 23 حزباً بقيادة الرئيس الباكستاني الأسبق الجنرال المتقاعد برويز مشرف، الذي جاء إلى سدة الحكم نتيجة انقلاب عسكري في 2001، وظل رئيساً للبلاد حتى 2008. واجه الرجل ملفات كثيرة وملاحقات قضائية لكنه تجاوز كل تلك، وبدأ يستعد لخوض الساحة السياسية من جديد. ولا شك في أن الجيش، كما أدى دوراً هاماً أثناء ملاحقاته القضائية، سيؤدي دوراً لينجح في الساحة السياسية. ثمة من يرى أنه، خلال الانتخابات المقبلة، سيكون له دور كبير بجانب حركة الإنصاف بزعامة عمران خان. والجيش والاستخبارات يعملان كي يحلاّ محل الأحزاب الرئيسية.
أما التحالف الثالث فهو تحالف الأحزاب الدينية السياسية، وعلى رأسها جمعية علماء الإسلام بقيادة المولوي فضل الرحمن، أحد حلفاء نواز شريف ومن المقربين للجيش. ويبدو أنه سيضحي بتحالفه الحالي مع نواز شريف لأجل المستقبل.
وفي حين يسود اعتقاد بأن التحالفين الأولين أتيا نتيجة مساعي الاستخبارات والجيش، أو بمباركتهما على أقل تقدير لأجل إحكام القبضة على سياسة البلاد الداخلية، لكن التحالف الثالث بين جماعات دينية يبدو أن من ورائه هدفين: التأثير في السياسة الداخلية ومواجهة التغيرات في المنطقة، وتحديداً ما يتوقع أن يحصل فيها نتيجة الاستراتيجية الأميركية الجديدة.
ليست هذه أول مرة تتوحد فيها الجماعات الدينية، بل سبق وشكلت تحالفاً في عام 2002 عندما دخلت القوات الأميركية إلى أفغانستان باسم "مجلس العمل الموحد". وتمكنت الجماعات الدينية آنذاك ولأول مرة في تاريخ باكستان من أن تشكل حكومة إقليمية في أحد أقاليم باكستان وهو إقليم خيبربختونخوا شمالي غرب باكستان المحاذي لأفغانستان. التحالف الذي شكل بمباركة الجيش والاستخبارات كان له دور كبير في تقوية الدور الديني ودور المدرسة الدينية التي باتت العنصر الأساسي لقوة حركة طالبان أفغانستان، خصوصاً في ما تتعلق بالعنصر البشري وشيئاً من الدعم المالي. ويتخطى حالياً عدد المدارس الدينية في باكستان الأربعين مدرسة ومعظمها تابعة للتنظيمات التي شكلت التحالف الجديد. وبالتالي فإن الهدف من ورائه ليس فقط النفوذ في السياسة الداخلية بل كذلك الأحوال المتغيرة في المنطقة وتأثير باكستان عليها. وكي يتعامل الجيش والاستخبارات بطلاقة مع ملفات المنطقة هما بحاجة إلى دعم من الداخل، وهذا ما ستفعله التحالفات الجديدة.