باريس: وقفة تضامنيّة في ذكرى المجزرة الجزائريّة

17 أكتوبر 2014
لاقى إقرار هولاند عام 2012 بالقمع الدموي انتقادات اليمين(الأناضول)
+ الخط -

يلتقي الجزائريون ومعهم المغتربون ومحبو العدالة في فرنسا، عند جسر سان ميشال في العاصمة الباريسية، اليوم الجمعة، لإحياء ذكرى أليمة، وهي ذكرى مجزرة باريس الجزائرية في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، حين قمعت الشرطة الفرنسية بالقوة والقتل تظاهرات خرج فيها آلاف الجزائريين الفرنسيين مطالبين برفع القيود عنهم وتحرير الجزائر التي كانت ترزح حينها تحت الاستعمار الفرنسي.
ويبدو أنّ الظروف التاريخية التي مرت بها الهجرة الجزائرية إلى فرنسا حتّى اليوم، لم تنجح في تغيير نظرة الفرنسيين، خصوصاً في صفوف اليمين واليمين المتطرف، إلى هذه الجالية الكبيرة، والتي لا يزال بعضهم يصنّفها على أنّها "طابور خامس". لم تتأخر الجالية الجزائرية منذ بدء تسيّسها عن المساهمة بشكل حاسم في تحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي، وإدانتها للمجازر والإبادات التي نفّذتها القوة الاستعماريّة منذ عام 1830، مروراً بتأسيس نجمة شمال أفريقيا في باريس، في العشرينيات من القرن الماضي، وصولاً إلى تأسيس حزب الشعب الجزائري في منطقة نانتير، في ضواحي باريس. وتُعتبر تظاهرات 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، من بين اللحظات الفارقة في تاريخ الجالية الجزائرية في فرنسا، وفي تاريخ الجزائر واستقلاله.

وفي انتظار قرار تاريخي حاسم، يُقدم الجزائريون والفرنسيون معاً على اتخاذه، لينقل "المجزرة/المَغْرَقة"، من حقل السياسة والانفعال إلى حقل التاريخ الواسع والموضوعي، لا تزال الروايات مختلفة، وتسرد تفاصيل لا يستوعبها العقل، شهدتها عاصمة حقوق الإنسان وعاصمة الأنوار، في ظلّ حكم الجنرال شارل ديغول.
لم تكن الاستخبارات والشرطة غافلتين، نتيجة الاعتماد على العديد من العملاء الجزائريين الذين فضّلوا التعاون مع المستعمر الفرنسي والمندسّين، عن درجة التسيُّس لدى العديد من الجزائريين، ومدى شعبيّة جبهة التحرير الوطني. في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1961، قررت محافظة الشرطة في باريس، انسجاما مع تعليمات حكومة ديغول، فرض حظر التجول من الثامنة والنصف ليلاً حتّى الخامسة والنصف صباحاً، على عموم "فرنسا الجزائر المسلمين".

ماركيز.. وقضيّة الجزائر
ويعترف الروائي الكولومبي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز أنّه اعتُقل مرة من قبل الشرطة، بسبب شاربه وسحنته اللذين يشبهان سحنة وشارب الجزائريين. وهناك، أي في المعتقل، تعرّف عليهم وعاصر قضاياهم، إن في الجزائر أو في فلسطين. ويقول داسّو سالديفار، في كتابه البيوغرافي عن ماركيز، بعنوان "سفر إلى الينبوع": "لم تكن حرب الجزائر تحتل الساحة الإعلامية بعد، لكنها كانت واقعاً مُهدِّداً لغابرييل غارسيا ماركيز لسحنته العربية (رأسه يشبه رؤوس العرب)، وقد دفع الثمن، إذ لدى خروجه من قاعة سينما ذات مساء، اعتقد رجال الدرك الفرنسيون أنه جزائري، فأشبعوه ضرباً ونقلوه إلى مقر الشرطة في سان جيرمان ديبريه، مع جزائريين حقيقيين، حزينين وذوي شوارب مثله، وتلقوا أيضاً الضربات". ويضيف: "حتّى يهدّئوا من ضيقهم، أطلقوا العنان طيلة هذه الليلة لترديد أغاني جورج براسانس. فارتبط ماركيز بصداقتهم، وتحديداً بالدكتور أحمد طبّال الذي نجح في إشعاره بقضيّة وطنه.

في هذه الحقبة، أنجز ماركيز العديد من التقارير عن حربي الجزائر وقناة السويس. ولم يتأخر الجواب الحاسم من حزب "الجبهة الوطنية الجزائرية"، الذي قرر مساء السابع عشر من أكتوبر تنظيم تظاهرة ضخمة، في قلب عاصمة الاستعمار، وصل عدد المشاركين فيها إلى أكثر من 30 ألف شخص، علماً أن مصادر تتحدّث عن مشاركة 65 الفاً، أعلنوا خلالها رفضهم الخضوع للتدابير العنصريّة، مطالبين باستقلال الجزائر.
وسرعان ما صدرت الأوامر العليا بسحق التظاهرة، على غرار ما كان يجري بصمت وبعيداً عن الإعلام، في مدن وقرى الجزائر المحتلة. جاء القمع عنيفاً ودموياً، إذ أعلنت الشرطة لاحقاً توقيف 11 ألفا و730 متظاهر جزائري، فيما أصيب مئات الجزائريين خلال تفريق التظاهرات بجروح خطيرة. ولقي أكثر من 300 جزائري مصرعهم، قتلاً بالرصاص الحي وغرقاً في نهر السين، في فترة ما قبل التظاهرة وبعدها، لتعترف فرنسا عام 1998 رسمياً بمقتل 40 فقط.

غياب الإحصاءات

لم تصدر أي إحصاءات دقيقة عن المجزرة بعد، ولا تزال مواد كثيرة في الأرشيف الرسمي محظورة على المؤرخين والباحثين، في وقت تبدو فيه الرواية الفرنسيّة بعيدة عن الحقيقة والواقع، في ظلّ وفاة المعنيين بالمجزرة، تدريجياً، ومن أبرزهم رئيس شرطة باريس حينها، موريس بابون، الذي حوكم على دوره في ترحيل اليهود، أكثر مما حوكم على دوره في قتل الجزائريين.
اليوم، يُطرح السؤال عما يريده الجزائريون، وخصوصاً أبناء شهداء 17 أكتوبر 1961 وكل محبّي الحقيقة والعدالة في العالم من الحكومة الفرنسية؟ هم يريدون، بكل بساطة، تسليط الضوء على حقيقة ما جرى.
صحيح أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، عبّر في الذكرى الخمسين للمجزرة عام 2011، وقبل أن يصبح رئيساً لجمهورية فرنسا عن تضامنه مع أسر الضحايا، معترفا بأنّ "هذا الحدث تمّ حجبه خلال فترة طويلة من رواياتنا التاريخية"، معتبراً أنّه من المهم التذكير بالوقائع التاريخية"، ليقرّ في الذكرى الحادية والخمسين، أي في العام اللاحق، بصفة رسميّة، بما أسماه "القمع الدموي"، وهي عين الحقيقة، للتظاهرة، لكنّ ذلك جعله عرّضة لانتقادات اليمين واليمين المتطرف، اللذين يعتبران أنّ إلقاء اللوم على الشرطة، ومن خلالها على الحكومة الفرنسية كلّها، أمرٌ غير مقبول.
ولم يحرّك هذا اليمين ساكناً حين أقرّ الرئيس السابق فرانسوا ميتران وبعده الرئيس جاك شيراك، بمسؤولية الدولة الفرنسيّة عن ترحيل ومقتل الكثير من اليهود خلال الاحتلال النازي لفرنسا.


متحف الهجرة

وفي سياق متّصل، يشهد "متحف الهجرة في باريس"، انطلاقة جديدة مع تسليم إدارته للمؤرخ الفرنسي ــ الجزائري بنجامين ستورا، المتخصّص والخبير في الحروب الاستعمارية وحركة الهجرة المغاربية (المغرب العربي) وكذلك الهجرات المغاربية في أوروبا، وصاحب مؤلفات كثيرة عن الجزائر.
ويأتي قرار تعيينه بمنصبه وفق مصادر الحكومة الفرنسيّة من أجل "منح دفع جديد لهذه المؤسسة، التي تلعب دوراً أساسياً في الانسجام الاجتماعي والجمهوري لفرنسا". وتوضح أنّ "هدفها العلمي يجب أن يسنح بتطوير الرؤى والذهنيات حول الهجرة في فرنسا، وذلك بفضل الاعتراف بمكانة الأجانب في التاريخ الوطني".
والحقيقة أنّ أبناء الهجرة، لا يريدون أكثر من هذا الاعتراف بـ"مكانة الأجانب في التاريخ الوطني"، وهو ما سيمسح بالنظر إليهم كمواطنين وليس كأهالي الجمهورية فحسب.
ويستوجب هذا الاعتراف أيضاً اعترافاً آخر بدور الحكومة والدولة الفرنسيتين في المجزرة، وهو ما سيؤدي، لاحقاً وحتماً، إلى اعتراف فرنسا بدورها "الكارثي" و"الإبادي" في المستعمرات، خصوصاً في الجارة الجزائر، لا سيّما بعد اعترافها بالحيف الذي تعرّض له اليهود في فرنسا.