باريس بيروت

21 أكتوبر 2014
+ الخط -
كثير من الباريسيين ذوي الأصل اللبناني، لهم عائلات مستقرّة في بيروت. هم يجدون فرصةً في خلق علاقة متعددة الوجوه مع مدينة باريس، نتيجة حركتهم المتكرّرة ذهابًا وإيابًا بين المدينتين. يؤلّف هؤلاء "الباريسيون" بيئةً خاصّةً على وشك أن تشمل الأغلبيّة الساحقة من سكّان العالم.
وتضع الحركة المكوكية باريس-بيروت، في المجابهة نمطين متجذرين من التخطيط المديني والمتناقضين تمامًا في المواجهة؛ السير في باريس يعني أن يحفر المرء خطاه في تتالٍ تاريخي من الأنماط المدينية، تحافظ عليها دولة حاضرة بقوّة عبر: التنظيف الإلزامي للواجهات، والإجراءات الإدارية الطويلة للحصول على رخصة بناء أو هدم، وتجانس التنظيم المديني الذي يذكّر كلّ لحظة بوجود ما يسمى "المجال العام". هنا لكلّ شارع قصّته ليرويها. تنحني الواجهات القديمة تحت ثقل القرون الغابرة، بينما يبرز التخطيط المديني الهوسماني (نسبة لجورج أوجين هوسمان) باعتباره مصمّمًا كي يدوم ويجسّد قيم السلطة التي أوجدته. الحجر المصقول والرخام والعوارض الخشبية وشرفات الحديد المطروق والزجاج والحديد المقوّى، هي كلّها صورة للعلاقة الفائقة الغنى بين الشكل والمادّة.
وماذا عن بيروت؟ يبدو أنها بصورة إجماليّة وأكثر فأكثر، عكس باريس تمامًا. إذ باستثناء وسط المدينة الصغير، الذي تمّت إعادة "تدويره"، وتطهيره، وكذلك بعض "الجزر" مثل مار ميخائيل، فإن السمة المشتركة للبناء هي التنافر التامّ، ممّا يشكّل نسيجًا مدينيًا معماريًا خاصّاً؛ خرّبته أوّل مرّة الحرب، ثمّ خرّبه متعهدو البناء مرّة ثانية، إذ هم اللاعبون الوحيدون في مدينة لا تخطيط مدينيًا لها، ولا قواعد تنظيمية مدينية، ولا حفاظ على التراث أيّا يكن. تتلاشى البيوت المقنطرة باطّراد، تغرقها رتابة البناء الخرساني، وتلك المشاريع المروّجة لنمط الحياة الاستعراضيّة، ذات العناوين البراقة المحتفية بالخواء: مثل برج يدعى "نخبة عائلة سرسق"، في حين هو يسحق الحي الذي يحمل اسم العائلة!
لكن حلّت فسيفساء من الجيوب الخاصّة تدريجيًا محلّ الفضاء العام، الذي تقلّص ليصبح حفنةً من الأماكن الرمزية مثل الكورنيش. وبرغم التنافر الحادّ بين بيروت وباريس، إلا أنه هو ما يجعل بيروت مدينةً عصيّةً على الإمساك. فوراء هذه الفسيفساء البنائية، ثمة فسيفساء أخرى ثقافية واجتماعيّة، كمثل تركيبٍ كوزموبوليتي يتقاطع مع مسارات تاريخيّة وإقليميّة مختلفة. إذ يبدو وكأن الغنى موجود وراء الجدران وفي أماكن اللقاء، وفي الوعي بعدم الديمومة والثبات، نتيجةً لعدم الاستقرار السياسي والمعماري المستمرين.
مقابل الطابع الجدّي للجادات الباريسيّة الكبرى، ووسط المدينة التاريخي الثابت أبداً على حاله، فإننا نجد في بيروت نبضًا أكثر حيويّة وفوضويّة؛ يلتصق جوّ المدينة بجلدك، مدينةٌ مضنيةٌ وغامضةٌ وعبثيةٌ وجاذبةٌ ومنفرةٌ في آن معًا. ضاجّة ومتحرّكة، تنبعث منها رائحة كريهة، لا معايير مهيمنة فيها، ولا حضور للدولة؛ متعدّدة نستسيغها في آخر المطاف مثلما نستسيغ العودة إلى باريس ونظامها.
لا، ليس في الأمر مفارقة، بل انعكاس للتعقيد الحقيقي للمدينة، هذا الكيان الذي قولبته عوامل كثيرة، كما قولبته الوضعية التي يتخذّها كلّ واحد إزاءه. هي وضعية مركّبة وحيوية ومتطورة تنمو بشكل أفضل عند المواجهة بين طرق تفكير متباينة. كما لو أن باريس وبيروت هما بشكل ما أبولون وديونيزوس. وإن كان الباريسي ذو الأصل البيروتي يستطيع تحقيق ذاته عبر التبادل بينهما، فذلك لأن نظرته أكثر قدرة على احتواء هذا التعقيد، وهو أقدر على عيش المدينة بذكاء.
المساهمون