امتدّ فصل الشتاء وبرده هذا العام، في بيروت. لعلّها فرصة يستفيد منها الصبيّ الصغير، ليبيع عدداً أكبر من القبعات الصوفيّة. هو لا يحبّ الشتاء ويرغب بقليل من الدفء والراحة. لم يعد يحبّ أي شيء. وإذا ما سألته عن تسوّله، يردّ قاطعاً "أنا أعمل بائعاً متنقلاً".
يحمل ابن السنوات العشر قبعاته ويحاول إقناع المارة بشرائها ليحموا أنفسهم من البرد. أما هو فلا يلبس إلا قميصاً رقيقاً في حين ينتعل حذاءً مهترئاً. "أنا لا أجرؤ على اعتمار واحدة من القبعات. هي للبيع وأنا لا أحتمل تكلفتها". لكن سعر القبعة الواحدة ألف ليرة لبنانية (0.66 دولاراً أميركياً) فقط.
وعامر (اسم مستعار تمنى لو أطلقه أهله عليه) يبدّل "بضائعه" وفق مقتضيات الفصول. ففي الشتاء يبيع الصوف وفي الصيف المحارم الورقية والمياه لسائقي سيارات الأجرة. أما في المناسبات والاحتفالات، فيحمل الألعاب والبالونات الملونة ويعرضها على الأطفال بسعر زهيد. هو احترف البيع على يد والده المقعد.
مسؤولية عامر أكبر بكثير من عمره. كأن حلمه تحقّق قبل أوانه.. "عندما كنت صغيراً، كنت أتمنى أن أكبر لأعمل وأتحمل مسؤولية أهلي". في ذلك الحين، كان يصرّ على مساعدة والده في شراء الحاجيات "لأُشعِر أهلي بأنني رجل مثل والدي". ووالده كان مزارعاً في سورية، لكنه مرض بالسكري وبترت رجله. أما اليوم، فيتمنى لو يرجع بالزمن خمس سنوات و"أنام في فراشي وتهتمّ بي والدتي".
عامر يخشى التحدّث إلى الغرباء. فوالده نبّه عليه بذلك وسأله التزام الصمت مهما سُئل. وربط ذلك بالظروف التي يعيشها النازحون السوريون في لبنان. لذا يبيع بضائعه ولا يتلفّظ بالكثير. لكنه قد يقول إنه وإخوته الصغار ووالدَيه "لسنا إرهابيين".
ويتهرّب من الاستفاضة بالكلام، ويتنقّل بين السيارات محاولاً بيع قبعات الصوف التي بحوزته، حتى لا يضيّع الوقت.
على الرغم من الواقع الأليم الذي يعيشه الصغير، قد يصادف في طريقه بعض الذين ما زال في قلبهم شيء من الرحمة. فيشترون مثلاً قبعات منه من دون أن يوجهوا له الإهانات، حتى أنهم قد يعطونه مالاً إضافياً. وفي يوم ممطر، اقترب من سيارة ليبيع سائقها قبعة. وبعدما أخذ واحدة منه، "نزع الرجل عنها علامتها وأعادها إليّ. طلب مني أن أعتمرها لتحميني من المطر". لم يعرف الصغير ماذا يفعل. وعندما أراد أن يشكر الرجل، انطلق بسيارته وقد اشتعل الضوء الأخضر عند تقاطع الطرقات.
عندما كان عامر أصغر سناً، كان يحب الشتاء. وكان ينتظر هذا الفصل ليرتدي ملابسه الصوفية وقبعته المزخرفة التي كانت جدّته قد حاكتها له. "كنت أتباهى بها أمام أصدقائي وأولاد الجيران في منطقتنا في ريف دمشق، في أيام الثلج". ففي تلك الأيام، "كنا نصنع كرات الثلج ونتراشق بها". في ذلك الزمن، لم يكن الصغير يخاف من المطر ولا من الصقيع كما يشعر في هذه الأيام. "كنا نتجمّع حول الصوبيا (المدفأة) وكنا نضحك كثيراً عندما نسمع أصوات الرعد".
أما اليوم، فالبرد يخيفه. هو سمع عن أطفال سوريين قضوا نتيجة البرد في المخيمات. أما صوت الرعد، "فيخيف شقيقي الصغير. هو يشبه أصوات القذائف في سورية". لم ينسَ عامر ولا إخوته تلك الأيام. فهم كانوا يقضونها متنقلين من منزل إلى آخر ومن حي إلى ثانٍ. حتى أن الأكل كان ينقصهم. "أمضينا أياماً ونحن لا نأكل إلا عشباً نقطفه وما تبقى من خضار في البساتين المحترقة".
أليمة هي الذكريات التي يحملها الصغير من أيامه الأخيرة في سورية، قبل أن يُجبر على مغادرة قريته المحاصرة. لكنه يرغب في العودة. يتمنى لو أن الحرب تنتهي في الوطن لينام في فراشه الذي اشتاق إليه، فينعم بقليل من الراحة التي تحرمه منها الساعات الطويلة التي يقضيها في بيع بضائعه. هو مرهق، فالضغوط الاجتماعية كثيرة على النازحين السوريين في لبنان.
عندما يتحدّث عامر، يشعر المرء بحجم المعاناة التي تثقل كاهله. فهو ما زال صغيراً على تحمّل المسؤولية والتورّط بأعمال متعبة وشاقة تفوق قدراته الجسدية. هي أعمال مردودها قليل ومتاعبها كثيرة. فالبيع في الشوارع "مرهق ومخيف" بحسب ما يقول. هو يحاول البقاء متيقظاً لحركة السيارات على الدوام، تجنباً لحادث ما قد يصيبه ويزيد من مأساته. إلى ذلك، يحاول الصغير البقاء أطول وقت ممكن في الشارع، لعله ينجح في بيع بضائعه كلها. لكن حتى لو تحقق ذلك، فهذا لا يعني أنه لن يعود إلى الشارع في اليوم التالي منذ الصباح الباكر. بالنسبة إليه هو الصغير الذي حُرم من طفولته باكراً، "كل يوم جديد هو يوم عمل آخر. فأنا نادراً ما أتغيّب عن العمل. العطل غير مفيدة لي".