انفعال مانع لأي نقاش

20 يناير 2015
Maurice Sinet
+ الخط -
لا يمكن للثقافة أن تقف بعيدةً ومنعزلةً عن الجريمة الإرهابية التي ضربت صحيفة "شارلي إيبدو". فمن النادر أن تجد شخصية فرنسية ثقافية فعّالة لم تعبّر عن موقفها ممّا جرى، وكأنما توجَّبَ على الجميع اتخاذ موقف. 
بعد الاعتداء، تشكَّل "حلفٌ مقدّس" بين جميع الفرنسيين، على أساس أن ما حصل هو تهديد للعلمانية الفرنسية ولقيم الجمهورية والاستثناء الفرنسي. لذا لم يعد أحد يستطيع الإفلات من سطوة شعار "كلّنا شارلي". هذا "الإجماع" الاستثنائي المشابه للإجماع الأميركي بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الشهير، دفع الموقع المعروف "ميديا بارت" إلى تنظيم لقاء شمل معظم التيّارات السياسية والفكرية الفرنسية، وهو اللقاء الذي أفرز شعار "كلنا شارلي"، وفيه أعلن إديوي بلينيل ودنيس سييفير وآخرون، أنهم لطالما كانوا على خلاف حاد مع صحيفة "شارلي إيبدو" بيد أن الزمن الآن، هو زمنُ الوحدة والتضامن والالتفاف حول العلمانية وحرية التعبير والديمقراطية. 
ما أغفله هذا اللقاء هو نسيان أو تناسي أن صحيفة "شارلي إيبدو" كانت في نزعها الأخير، بعد وفاة كل من البروفيسور شورون وفرانسوا كافانا، وإقالة موريس سينيه بسبب تجرؤه على انتقاد إسرائيل من جهة، ومن جهة ثانية وصول فيليب فال إلى رئاسة تحريرها، وهو المعروف بقربه من الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي عيَّنَه، فيما بعد، رئيسًا لراديو فرانس أنتير الحكومي، وقد عقَّبَ فال على اغتيال زملائه قائلًا: "إنهم لم يُسيئوا لأحد، وكانوا حُماة الحرية". 
الآن يتمّ تذكّر ما قاله الفكاهي الساخر غي بيدوس قبل ثلاث سنوات، تعليقًا على نشر صحيفة شارلي الصور الكاريكاتورية للنبي محمّد: "شارلي إيبدو ليسوا من أصدقائي، فليموتوا. أنا لا أتفق معهم، فقد خاطروا بحياة الناس". لكن بيدوس يرفض تأويل تصريحه السابق هذا، اليوم، فيفسّر معناه بـ "فليغربوا عن وجهي". من الصحيح أن تصريح بيدوس كان قاسيًا، لكنه يعلن رفضه: "لستُ مستعدًا لتلقي دروس في الوقاحة من الذين انبطحوا أمام فيليب فال، الذي انبطح، بدوره، أمام ساركوزي، ليصبح مديرًا لفرانس أنتير". 
في فرنسا "يكتشف" الجميع اليوم، أنها بلد التميّز الثقافي والعلمانية والحرية، حرية التعبير وحرية السخرية وحرية النقد. إذ لا شيء يفلت تقريبًا من النقد. تقريبًا، خلا المواضيع التي تخصّ المحرقة اليهودية، إذ إن صاحبها يدخل في إطار "معاداة السامية"، وهو أمرٌ مجرّم قانونًا بشدّة. 
ازداد التشدّد الأمني، واقتربت فرنسا من محاكاة قانون "الباتريوت آكت" الأميركي الذي سبّب ولا يزال انتهاكًا لحقوق الإنسان. وازدادت حال الانفعال التي أعقبت الاعتداء الإرهابي، رغم مرور أسبوع، وتواصلت عبر تنظيم جنازات للصحافيين والرسامين ورجال الشرطة الذين قَضوا في الاعتداء. ولم يكسر هذا الإجماع الفريد من نوعه إلا اثنين: الأوّل الفكاهي الساخر ديودونيه، إذ كتب على صفحته على فيسبوك بعد مشاركته في الجنازة: "أحس بأنني شارلي كوليبالي" في إشارة إلى أحمدي كوليبالي الذي قتل شرطيًا، قبل أن ينفذ عملية احتجاز رهائن دامية في متجر للأغذية اليهودية في باريس، في حادثة انتهت بمقتله. بيد أن الظروف "الاستثنائية" التي تعيشها فرنسا، دفعت السلطات الفرنسية إلى اعتقال ديودونيه، تأهبّا لمحاكمته بتهمة تبرير الإرهاب. أمّا الثاني فهو أحد مؤسّسي شارلي إيبدو، دلفيل دو تون، الصحافي والرسام البالغ من العمر ثمانين سنة، حيث اتهم المدير السابق لصحيفة شارلي، أي شارب، بـ "جرّ فريقه إلى الموت". وهو ما يكشف أن صراعات حادّة (شخصية وإيديولوجية)، كانت موجودة داخل الصحيفة، وأنها لم تتوقف بعد إقالة الرسّام سينيه منها نتيجةً رسمٍ، اتُهم على أثره بمعاداة السامية. 
وقد كتب دو تون، في عموده في مجلة "لونوفيل أوبزرفاتور" أنه "يلوم شارب لأنّه جرّ فريقه إلى الموت، وبشكل خاصّ بسبب نشره الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي"، التي "يأسف لشدّة استفزازها". وقد تسبّب مقاله هذا، بإثارة غضب محامي "شارلي إيبدو"، ريشارد مالكا الذي قال: "لم يُدفن شارب بعد، ومع ذلك لم تجد مجلة "لونوفيل أوبوزرفاتور" شيئًا أفضل من نشر هذا المقال السجالي الحاقد". 
وعلى غرار حجم الإجماع الذي لم يتوقعه أحد قبل الجريمة، كان حجم "تحرير" الخطابين السياسي والفكري. فها هو عضو الأكاديمية الفرنسية آلان فنكلكروت، المفكّر الصهيوني المعروف بمعاداته للأفارقة والعرب، قد أعلن حربًا مفتوحةً ضدّ "حزب الآخر". وتمثّل بجملة وردت على أحد اليافطات أثناء المسيرة التاريخية في 11 يناير/كانون الثاني: "أنا شارلي، أنا شرطي، أنا يهودي، أنا الجمهورية". استغلّ فنكلكروت أجواء الانفعال والتأثّر السائدين، من أجل إدانة كل من يتعاطف مع المسلمين -أو الضحية الأخرى لجريمة شارلي إيبدو- وتصفية حسابه معهم، فندّد بتصريح غي بيدوس، ثم ندّد بمقال شهير لإدغار موران، رفقة دانييل ساليناف وسامي نايير، الذي أدانوا فيه انسياق المؤسسات اليهودية الفرنسية خلف موقف الحكومة الإسرائيلية التي تضطهد الفلسطينيين. لم يستثنِ فنكلكروت في حملته "المندّدة" حتّى إيدوي بلينيل -أحد مؤسّسي موقع ميديا بارت- ولا مدير جريدة ليبيراسيون بسبب موقفهم المتفهم لمعاناة المسلمين. 
وفي مواجهة صعود الإسلاموفوبيا في فرنسا، يتخذّ فنكلكروت كعادته موقفًا ملتبسًا: "باسم محاربة الإسلاموفوبيا بدأت الرقابة الذاتية تستقر بشكل هادئ في فرنسا. كثير من الذين يعلنون اليوم أنهم "شارلي"، لاَمُوا، بالأمس، روبيرت ريديكير (أستاذ ثانوية تهجّم على الإسلام)، وهو أستاذ فلسفة حُكم عليه العيش متخفيًا في بلده". 
وإذا كان الكثير من المثقفين الفرنسيين يعلنون عن آرائهم العلمانية، فإن آخرين، معظمهم من مجلة "كوزور"، ومن بينهم عرب، يتفننون في ترصّد الآخرين. وتصل الوقاحة ببعضهم، مثل غيوم موريس إلى الاحتجاج لأنه لم يُسمَح له بإشهار رسم لـ "شارب"، مدير شارلي إيبدو القتيل، أمام الكاميرا خلال برنامج على قناة "كانال بلوس". وقد ردّت إدارة القناة بـ "أنها تدافع بشكل دائم عن حرية التعبير، وأنها ستواصل نشر الرسوم الكاريكاتورية من دون الخضوع لأي استفزاز". 
وفي الاتجاه عينه، اعترضت إليزابيث ليفي، مديرة مجلة "كوزور" فكتبت في افتتاحيتها: "فرنسا في حالة حرب، وقد قلنا ذلك مرارًا. ليس الوقت الآن وقت الصفح، لكنه وقت القتال. بالتأكيد لن أصفح لا عن القتَلة ولا عن العُميان". 
إذ يبدو أنه في الوقت الراهن، لا مجال لأي نقاش موضوعي، فإمّا أن تكون مع شارلي إيبدو بشكل مطلق، أو أغلق فمك. فالجميع يستعرض تاريخ فرنسا وعلمانيتها، والجميع يعيد اكتشاف فولتير، متأسفًا أن أحدًا لم ينتبه إلى إرهاصات ما حصل اليوم. يكتب جاك دي سانت فكتور في الملحق الأدبي لصحيفة لو فيغارو: "أولًا كان منع مسرحية محمّد في جنيف سنة 1993، ثمّ قضية ريديكير سنة 2006، التي تطلّبت إخفاء أستاذ ثانوية لأنه كتب مقالا عن الإسلام في صحيفة لوفيغارو، والآن المجزرة الفظيعة ضدّ شارلي إيبدو، بعد اعتداء عليها بقنبلة سنة 2011. ووقتها كان بعض "الطيبين" بعيدين جدًا من رفع شعار "أنا شارلي"، بل إن بعض حملات التوقيع، رفضت إبداء الحزن على مصير الصحيفة، معتبرة أنها "تساهم، عبر نشر رسوم معادية للمسلمين، في الغموض العام"، بل وفي "إضفاء شعبية على أفكار جان ماري لوبين". 
وبما أن الجميع في فرنسا، من مثقفين وكتاب وسياسيين، يرفعون شعار "أنا شارلي"، فإن الفكر النقدي، الذي كانت شارلي إيبدو تدَّعي الدفاع عنه، لن يعود مجدًدا إلى أن تتجاوز فرنسا فترةَ الحِداد والانفعال التي تعيشها. 


المساهمون