انحناءة الزعتري على جثة عمّان

29 مايو 2014
+ الخط -

حين يتصدى أي كان للكتابة عن مدينة، يغدو ضرورياً التفكير من أين رأى المدينة وراقبها وتناولها؟ أين وضع قديمه ليتمكن من قول كل ما قال؟ وفي حالة الراوي وعمان يبدو أنه وضع قدماً في منزله –حيث يغلق بابه عن/ على المدينة- والقدم الأخرى على الجسر، جسر التناقضات وجسر المعارك، جسر عبدون/ النقيفة، الجسر الفاصل بين عمّانين، والجسر الذي اختاره الزعتري ليكون عنوان الحرب القادمة. وبذلك تشكّل خطان وخياران، خيار النأي عن كل ما يجري والبحث عن حد أدنى من السلامة، وخيار الانهماك والانهمام بما يجري ولكن دون الانجرار إليه. كأن وجود المسافة ضروري، ولكن الفارق هو حجمها وشساعتها، وهذا يبدو أول الأمر وكأن الراوي يحدّده، ثم تبدأ الحرب الدائرة في تحديده، وتجذبه ليجد نفسه مع المعسكر الأقرب إليه دون أن يكون منه تماماً.

لعل أفضل التقاطات الزعتري التقنية في عمله هي سيولة الزمن، ولا يقصد به هنا ما يعتمده كثير من الروائيين من مراوحة بين الأزمنة، واتباع خطوط زمنية متداخلة، بل يرد الماضي حين يخطو العمل في المستقبل، ويحيل كل منهما إلى الآخر، حتى يبدو الأمر مربكاً وسؤال "في أي زمن نحن؟" ملحّاً، خاصة حين ترد الكثير من الإشارات الراهنة وبأسماء وتواريخ بالغة الآنية ونحن نهيم في المستقبل. وحين يشكّل الراوي حرباً أهلية- بل أسوأ منها ربما، في مستقبل قريب أسود، نبدو وكأننا نسمع لحناً جنائزياً قديماً نعرفه، كيف لا والعطّار المحتجز في أحد معسكرات عمان–ما بعد الخراب- يخرج ليواجه "أيلول"، "هكذا كانوا يلقبون الشهر".

تبدو "الحالة" التي يضعنا بها الراوي مشبعة بالتنظير والتصورات المجردة دون منتج فعلي، ويطال هذا الأمر الموسيقى الحاضرة بوضوح في العمل، وينسحب على كل شيء في عزلة الراوي، ويمتد الأمر حتى يبلغ دور العطّار–غير المكتمل- ويرتضيه في معسكر ما بعد الحرب. الموسيقى وكل شيء في أزمة ما، بل وتتجسد في شطر منها بمرضى يعيشون عند كل طارئ عابر أزمة اختناق ووجود– وهوية كما يظهر لويس غامضا جوّانيا- ويواجهون الموت في الشهر مرة أو مرتين أو أكثر. ولعل هذا التهديد المستمر ناظم لافت سار العمل معه وبه، حتى العزلة مهددة بجثة تطرق الباب!

يحكي العمل أيضاً جانباً متوارياً من هوس "الملتزمين" بالبحث عن دور أو بدائل في هذه المرحلة من زمننا العربي، ولا يتوقف الأمر على إيجاده، بل على توفير الدور للاطمئنان المأمول منه، أو تحقيق أي جدوى ممكنة، ناهيك عن التغيير المطلوب. وهذا جلي في استحضار مشاهد من حراكات الأردن وعمّان. ولكن حتى الوصول إلى الدور والاطمئنان إليه، يبدو بحاجة لخراب كامل مطبق، ولمستقبل متخيّل بحذافيره الحادة. وبعد الركون إلى الدور ذاك يأتي من/ما يعبث به وينقضه، ولو كان الدور وظيفة عطّار يعيش بين الأعشاب، ويداوي نزلات البرد ومشاكل الجهاز التنفسي. حتى في هذه يبدو المتخيّل متصلاً بلهو عبثي، فيختار للعطارة ذاك الذي طرق مرضى الربو قلبه وبابه.

لم يعمد الزعتري إلى ما يعمد إليه الكثير من الباحثين والدارسين والروائيين والمشتغلين بالثقافة والفنون، حين يعرضون تناقضات المدن ومفارقاتها وصراعاتها، ولم ينتهج مقاربات معتادة أو مستهلكة في تصوير الصراع، بكل أشكاله، رغم وقوعه جزئياً في شرك رمزيات مكرورة. بل إن وقوفه على الواقع كما هو، ذريعة الأعمال الأقل إبداعاً وتفرداً، أحاله إلى ما يخفي الواقعُ وما يستبطن.

كان لا بد من قفزة في الخيال لإجلاء الواقع بصورته الأوضح، ومهما شطح الخيال فإنه يحمل مبرره في صلبه، فهو خيال بالنهاية. والخيال كالذي في الرواية يحيل إلى محاججة تقول إن أفضل وسيلة، فنيّة وأخلاقية، للتعاطي مع تناقضات يتغافل عنها كثيرون، أو يتواطؤون معها، هي أخذ التناقضات إلى مداها الأقصى، حينها تبدو الأمور أوضح والخيال أصدق، وحينها يكتسب العمل قيمة استشرافية وفنيّة مضاعفة، ويخلّص الكاتب نفسه من شروط موضوعية زائفة يرعاها المتواطئون من الحالة القائمة.

يمكن أن يؤخذ على الزعتري وجود نفَس اعتذاري عن مقاربة عمّان بهذه الشاكلة، مع تأكيد حالة المدينة اللزجة التي يلعب فيها الذهن ألعابه ويشكّلها على هواه، وعلى الرغم من أن هذا النفَس يمر خفيفاً في النص إلا أنه واضح، خاصة حين ترد عبارات قطعية موحية قبل انتصاف العمل، على لسان نوال "لا أنتمي إلى عمان، عمان موجودة فقط في مخيلتي، عمان لا تكون إلا عندما أفكر بها"(ص 66)، وعلى الرغم من سهولة الاتفاق مع هذا الرأي، إلا أنه كثير التكرار في صفحات الرواية الـ 144، ويمر في قالب خطابيّ تقريريّ أحياناً، ومما لا شك فيه أن من يمتلك جرأة "النظر إلى جثة"، ويتقدم للعبث بها، ليس بحاجة لاستدراكات وتحوطات.

فنيا وتقنيا؛ وباستثناء استطرادات نابية معدودة، كلويس يحكي قصة الموسيقى، واستدعاءات هيغل وهايدغر، وملاحقات لذاكرة الطفولة الضبابيّة؛ يبدو السرد وفيا لمراميه واللغة لا تقل وفاء، والتشظي في بنية العمل أوفى لمقام الجثث وأحوالها.

لم يكن العمل مجرد "انحناء على جثة عمّان"، كان الزعتري يضع رجله تحت الجثة ويدفعها حتى تتدحرج أمامه، وتظهر تفسخاتها وقروحها العفنة، مع كل دحرجة على أرض الرواية المليئة بالندوب، حتى لتتمنّى أن يترك الراوي الجثة وشأنها، وتقول في نفسك ألا تكفي كل هذه الجثث والأشلاء حولنا؟ ولكن اللافت في العمل أنك تحتمل كل هذا وتمضي مع الرواية في جلسة واحدة حتى نهاية أسطرها، وتظل تشعر أنك كما الراوي تخبّئ ذراعاً في الحقيبة، حضورها طاغ ولا يمكنك التصرف وكأنها غير موجودة.

المساهمون