انتهى العرس وتفرّق الناس كلٌّ يعود إلى حاله. كانت النهاية بقدر البداية وقدر التدفُّق. وحلَّ السكوت محلّ الأهازيج. عادوا إلى حالهم، وأنا ليس لي حال أعود إليها. تفرّقوا لأنهم في حقيقة الحال لم يجتمعوا، وأنا الذي اجتمعتُ كيف أتفرّق. هُم قبلوا ورضوا وأنا ما ارتويت، وهم توافقوا وأنا مسّتني الغربة وشفّني الغياب.
انتهى العرس واستبد الحنين، يردّد كل المتفرّقين دوماً.
الغربة والغياب يستبدّان بك أكثر وأنت بين أهلك، يستبدّان بك عندما تشعر أن ذاكرتك لم تعد تفيد إدراكك، وأنَّ الحس البصري والسمعي، بل وكلَّ الحسّ منفلتٌ منك. المعالم المعتادة لم تعد تُسعف في دروب القيم الجديدة، والآفاق الرحبة بسعة الحلم والخيال. الغربة تستبدّ بك عندما تجنح بك الآمال الجامحة لتعود لا أنت.
ووقفتُ عند العتبة لا أنا من الداخل ولا أنا من الخارج، العتبة غير معتبرة، بل ويسكنها الشيطان وترش بالسمن إرضاءً للأبالسة الصغار. لا الذي في الخارج يعتبرك منه، ولا الذي في الداخل يبقيك معه فتتيه. حال العتبة ضيّق وسريع العطب.
وقفتُ أرقب وهج شمس تعلن الحرب على أفراح دامت لياليَ. هي العتبة فعلاً حالي، إمّا أن أخرج وأنسى ما قبلها وأمضي، أو أعود من حيث جئت.
وقفت وكنتُ مفتوناً بالشمس الطالعة كفاكهة رمان، وجئتَ أنتَ أيضاً تنظر إلى الكرة الحمراء، تقف مثلي تماماً على العتبة لا تُريد الخروج ولا تريد الدخول، ولا تبالي بمن يشاركك حيرة الصباح.
- انتهى العرس وسيرجع كل واحد إلى اليومي المقيت.
- قريتكم جميلة جدّاً، أشرت ولم تنظر إليَّ كمن لا يبالي.
- قريتي جميلة في الأعراس فحسب.
- لا، قريتكم جميلة بنخيلها وبالسواقي، وبعوائد حرية الكلام.
ثم أغمضت عينيك وشدوت:
"حبيب قلبي وفاني في ميعاده ونول بعد ما طول بعاده
بقى يقول لي وأنا أقول له
وخلّصنا الكلام كلّه".
- سعيد هذا الذي تغنّي من أجله.
وابتسمت لأوّل مرّة وتفتّح وجهك كزهر الرمّان.
- هو غير موجود سوى في الحلم.
- ولو، هو سعيد من قيل فيه هذا الكلام. الآن فهمت لماذا لم تكن تشارك الشباب الأهازيج، وأن غياب الزي ليس سوى عذرٍ، ذائقتك شرقية ونحن هنا محلّيون حتى النخاع.
ثم بدأت العصافير تزقزق وترفرف فوق رؤوسنا وانتشيت وغنيت:
"يا حبيباً قد طال فيه سهادي".
وتجرّأتُ وقلت لك:
- هذا وقت قطف التمر.
أخذت بيدي ونزلنا سلّم الحديقة.
- ولكن لباسك ليلي، أشرت، ولم تجب.
ولم تجب، ومشينا في درب البستان، فوقه التين الهندي وأسفله الأثل العملاق والساقية، وأشجار كل الفواكه هنا وهناك، وقفزنا الساقية وجرينا.
ومشينا اليد في اليد ولم يكن يتكلّم غير الصمت وتوازن العناصر.
- لم أعرفك ولم تعرفني إلّا لحظة بزوغ الشمس، لكن كأننا نعرف بعضنا من قبل.
- رأينا بعضنا بالعين الثالثة.
- هذه العين التي تحفظنا من الأخرى التي تشتغل مع الحسد.
وبين الحين والآخر تعلو ضحكة، ويشدو حظٌّ أرسله الله.
وهبطت الملائكة إلى السماء السفلية، وانتشى الكون، كلُّ الكون.
- لا حسد في قريتكم.
عندما ينتهي العرس يشتدّ الحنين.
صعدت النخلة وهززت عرجوناً ليسّاقط الرطب. وبين التمرة والأخرى حديث يقطعه علينا سلام مار أو مارّة ينصحون باتقاء الغدر.
ثم عدونا وسط حقل قمح أخضر نصطاد السعد والفراشات. وعندما تعبنا قعدنا تحت زيتونة عملاقة نحكي من نكون.
- غريب أمري معك، من العتبة، وتتبّع كرة اللهب، وسماع العصافير، تبعتك كالأحمق لنتيه هنا في المزرعة كالمجانين.
ضحكت وأخرجت الكتاب من جيبي لأقرأ بعض الأشعار.
- لا تفتحه، فالكتب تُفسد عقول الشباب. حدّثني عن كتابك أنت ومن تكون. الإنسان أجمل كتاب، والكتاب بشر لم تكتمل إنسيّتهم.
- أنا لا أكون شيئاً سوى هذا الغبي الذي أمامك يحبّ الفرح والشعر وصيد الفراشات.
- آه فهمت، أنت لا شغل لك وتبحث عمّن تضيع شغله.
- أمّا أنا فأخ العروس، وقد جئتُ بلدَكَ الذي سمعتُ عن شبابه إتقان الكلام وتصيّد الفراشات.
- هذا البلد اكتمل فيه كل شيء، الجمال والناس والعوائد، وهو بذلك ينتظر التفسُّخ والموت.
- كلامك مفيد وجميل لكنه حزين ومخيف.
- هي الحقيقة، نحن نعيش النهايات، وكيف تريد أن أفرح.
ورجعت إلى شدو الصباح:
"حبيب قلبي وافاني في ميعاده ونول بعد ما طول بعاده
حبيبي قابلني وهو متبسم وطمّني على وصله
وقال لي بعدما سلّم كلام القلب يرقص له
بقى يقول لي وأنا أقول له
وخلّصنا الكلام كلّه
وأقول له خايف تنساني
يقول لي مستحيل أقدر".
قمنا واقترحتُ أن نعود إلى منزل العرس، ما زال فيه بعض مرق الدجاج وأنا أحب مرق الأعراس.
ونحن في طريق العودة أذّن المؤذّن لصلاة العصر، وهرولنا تتبعنا الفراشات. وندعو لأهل العرس.
أوصلتك إلى الباب الخلفي للبستان حيث الأثل العملاق وشبه الجسر الخشبي. طلبت منّي أن أدخل واعتذرت. ثم رأيتك تذهب شيئاً فشيئاً، وتارةً بعد أُخرى كنت تلوّح بيدك.
وأدرتَ الظهر للجسر وللأثل وللبستان. وتيقّنت أن لقاءنا انتهى، كما انتهى العرس، وكما انتهت القرية كلّها.
جمعت الجريد اليابس وذهبت إلى المسجد، سخنت ماء الوضوء. صليت ركعتين ولو بعد العصر. وبعدها نمت في غرفة الطلبة يومين.
* كاتب من المغرب