انتقام في جنازة

28 فبراير 2020
+ الخط -
لا ندري إن كان عبد الفتاح السيسي يُحب حسني مبارك، أو يُقَدره فعلاً أم لا. ما نعلمه، يقيناً لا تخميناً، أن السيسي لا يحب ثورة 25 يناير ولا يُقَدر ثوارها الذين أطاحوا مبارك. مهما تظاهر الإشادة بهذه الثورة، كقوله، قبل أيام، إن "ذكرى عيد الشرطة تتواكب مع ذكرى ثورة 25 يناير بمطالبها النبيلة لتحقيق سبل العيش الكريم للمواطن المصري"، فهذا لا يخفي حنقه وحقده على ثورةٍ وصفها يوماً "بالانحراف"، أو "تزييف الوعي" كما قال في مؤتمر الشباب في الإسماعيلية، يوم 26 إبريل/ نيسان 2017. وبين التمجيد الزائف بثورة يناير والحط المُتعمد من قَدرها، لم يَفت السيسي التأكيد، في أكثر من مناسبة، أنه لن يسمح بتكرار"ما جرى في يناير 2011" من فوضى، مُحذراً بوضوح أن "الكلام اللي كان اتعمل من 7 أو 8 سنين، مش هيتكرّر تاني في مصر، اللي منجحش ساعتها هتنجحوه دلوقتي؟ إنتم باين عليكم متعرفونيش، أنا مش راجل سياسي". 
تُرجمت كراهية السيسي ثورة يناير في أفعاله أكثر من أقواله، عندما أوغل في انتقامه من نشطاء الثورة ورموزها، يساريين وإسلاميين ومستقلين وقوميين. لم يسلم من ذلك حتى من ناصروا انقلابه بداية، ثم لم يحتملوا شططه ورعونة حكمه وهزالة شخصه. في انتقامه من الثورة، جنح السيسي إلى معاقبة الشعب، جماعاتٍ وفرادى، قضى على أحلام الشباب في الخلاص من حكم العسكر، وبناء دولةٍ مدنيةٍ، أساس الحكم فيها العدل والمساواة والديمقراطية التداولية. زجّ آلافا في السجون، قضى عشرات منهم في عتمة زنازين حكمه البوليسي، ودفع آلافا آخرين للهرب إلى المنافي القسرية. كانت ثورة 25 يناير قاب قوسين أو أدنى من النصر، يوم ألقي مبارك خطاب التنحي في 11 فبراير/ شباط 2011، وكانت الفرحة عارمة في أول بث مباشر لوقائع محاكمة مبارك ونجليه ووزير داخليته حبيب العادلي في أغسطس/ آب 2011، وعرفت حينها بـ"محاكمة القرن"، لكن القدر تبدّل سريعًا، وراح الرئيس المخلوع يشاهد من سريره في السجن المُصطنع، أو المشفى المُفتعل، كيف عصف انقلاب السيسي العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013 بثورة يناير، وكيف حلّ الثوار في زنازين، كان مبارك ونجلاه أوْلى بها. نجح السيسي، خلال سنوات قليلة، في إنتاج ما هو أسوأ من نظام مبارك، إذ قام بتفصيل مؤسسات الحكم على مقاسه، حتى أنه أسقط دستور الثورة، ودسَّ محله دستوراً يتيح له الجثوم على صدر المصريين عقودا مقبلة.
ما يُبطنه السيسي من كراهية لثورة يناير 2011 لا يخفى، وقد تجلى في مراسم تشييع مبارك الذي أطاحه الشعب، بدءاً من بيان النعي الذي أصدرته الرئاسة، وفيه: "ننعى، ببالغ الحزن، رئيس الجمهورية الأسبق محمد حسني مبارك، لما قدمه لوطنه كأحد قادة وأبطال حرب أكتوبر المجيدة التي أعادت الكرامة والعزة للأمة العربية"، مروراً ببيان النعي للقيادة العامة للجيش الذي وصف مبارك "ابناً من أبنائها، وقائداً من قادة حرب أكتوبر"، وصولاً إلى مراسم التشييع من مسجد المشير في جنازة عسكرية لا تليق برئيسٍ خلعه شعبه، ودين بقضايا فساد عدة. انتقم السيسي من شعب ثورة يناير بجنازة رسميةٍ مهيبةٍ لمخلوعٍ أمر بقتل المتظاهرين يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2011، وأحال، خلال ثلاثين سنة من الحكم، مصر إلى عزبةٍ لعائلته، وخرابة للسواد الأعظم من الشعب.
لا تكاد محاسن المخلوع الراحل تُرى في كوم مثالبه، ولكن له أن يُوسم بالرئيس المحظوظ، إذ اعتلى رئاسة مصر بالمصادفة، ونجا من عدة مُحاولات اغتيال، ثم نجا من الإعدام أو السجن المؤبد بعد ثورة يناير، وأخيراً شُيع بمراسم عسكرية. لا ندري إن كان السيسي رتب التشييع المهيب، وفاءً لروح قائده الراحل أم تظاهر بذلك، لكننا نعلم يقيناً أن روح الانتقام من ثورة يناير خيّمت بسوادها على الزمان والمكان.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.