انتقام الجشع من الزمّار

25 يونيو 2015
عازف المزمار في عمل لـ إروغروف
+ الخط -

مدينة "هايمن" موجودة منذ زمن طويل في قصص الأطفال والكبار معاً، أما "زمّارها" الشهير فلم يغادر القصة حتى الآن منذ أن وضعه الخيال الشعبي فيها، وبالطبع لم يرجع الأطفال الذين قادهم الزمّار بنغمات مزماره إلى الجبل ودخل فيه وهم يتبعونه، وما زال في ذاكرتي مشهد ذلك الصبي الأعرج الذي تخلّف عن الركب فلم يلحق برفاقه.

لهذه الأسباب مجتمعة؛ كانت المفاجأة كاملة حين بثت فضائية عربية فيلماً يحكي القصة بشكل مختلف جذرياً.

بعد أن يُغضب أهالي "هايمن" الجشعين الزمّارَ الذين خلصتهم نغماتُ مزماره من الجرذان التي أكلت أخضرهم ويابسهم؛ لأنهم لم يدفعوا له المكافأة المتفق عليها بين الطرفين، يعاقبهم بنغماتٍ تجرُّ أطفالهم وراءه إلى الجبل، فيبدأ العزف بمزماره متجولاً بين البيوت، فيتجمع الأطفال لدى سماعهم الصوت حوله، ويواصل السير والعزف وهم يتبعونه، إلى أن يصل إلى الجبل فيدخل فيه ويختفي والأطفال بصحبته إلى الأبد.

الجديد كما يبدو هو أن أهالي "هايمن" المعاصرين، أو من أعاد صناعة القصة من أجلهم، وجدوا بعد كل هذه السنين الطويلة أن قصة تنتهي بهذه النهاية الحزينة، لم تعد ملائمة لأطفال عصر العولمة، والخيالات الرقمية، وأرقام الأموال الفلكية. فعادوا إليها وأدخلوا تغييرات جوهرية.

فهم أولاً جعلوا الزمّار يجرُّ الأطفالَ إلى الغابة ويخبئهم فيها، وجعلوه يعود لابتزازهم، فيطردونه شرّ طردة، فيفر هارباً، ثم جعلوا الصبي الأعرج، الذي عجز عن اللحاق برفاقه، وشاهدهم من بعيد يدخلون في الجبل ولا يرجعون، يواصل طريقه باحثاً عن رفاقه إلى أن يجدهم فيعيدهم إلى "هايمن"، فيفرح أهلها، وتنتهي القصة بانتصار الجشع وسطوة المال ونقض الوعود، ومحو تلك العاطفة الحزينة التي خلفتها النسخة الأولى من القصة.

أعتقد أن هذه الصياغة نموذج لما تتعرض له باقي القصص، سواء تلك التي تعد ليبتلعها الصغار أو تلك التي تعد لينتشي بها الكبار في الإعلام الراهن.

أنا لا أستطيع تصديق أن نهاية سعيدة من هذا النوع بريئة من نزعة نقض أجمل ما في القصص التي نعرفها، أي نقض إشاراتها الأخلاقية المنذرة، والقول إن مجلس مدينة "هايمن" البلدي وزعيمه الذي كان كرشه يفيض عن الكرسي الذي يجلس عليه، هو الذي سينتصر.

صحيح أننا حين قرأنا القصة صغاراً أصابنا الحزن على مصير الأطفال، كما يصيبنا الحزن الآن على الملايين منهم التي تذهب دهساً بسبب جشع أهالي "هايمن"، وتأثرنا أمام مشهد الصبي الذي تخلف عن رفاقه، ولكننا كنا نغضب من جهة أخرى على هؤلاء الذين ضحوا بالأطفال وفضلوا أن يكنزوا الذهب على أن يؤدوا للزمّار حقه.

أي أننا كنا نتعلم أين نضع عواطفنا، ونتعلم التفكير بتمجيد العدل في ضوء مأساة كانت كذلك بكل المقاييس. أما مع إعادة الصياغة الرقمية وفق حسابات مجلس الجشع التضامني، وعلى إيقاع رنين النقود، فنحن مدعوون إلى صب جام غضبنا على الزمّار المسكين الذي لا شك أن نغماته أخذت الأطفال إلى عالم البراءة والطفولة بعيداً عن "هايمن" وطقوسها.

دلالات
المساهمون