اليهوديّة الأخيرة

14 أكتوبر 2014
ما أكثر القطط في المكان.. وما أشدّ كرهي لها(Getty)
+ الخط -

لم يكن أحد يحبّها. ولم تكن تحبّ أحداً.
كانت متقدمة في السنّ، إلى تلك الدرجة التي يقال فيها: لقد نسيها الموت. والكره جزء من شخصيتها وسلوكها اليومي، تلقيه وتتلقاه. فهي اليهوديّة الأخيرة، ربما، في المدينة. وتشعر بكلّ هذه العنصريّة اليوميّة تجاهها، ولا تقابلها إلاّ بمثلها، أو بما هو أشدّ.
زوجها مات قبل أكثر من أربعين عاماً. مرّت الحرب اللبنانية عليها. ورحلت الغالبية العظمى من يهود البلاد، بمن فيهم أولادها، لكنّها بقيت.
شعرها الأصفر المصبوغ مئات المرات، على مدار السنين، يتحول في ضوء الشمس إلى لون مختلف، يختلط بالأخضر، ويقترب من البرتقالي بغرابة. أمّا ملابسها، فتبدو كأنّها خارجة للتوّ من فيلم صامت لتشارلي تشابلن. ومع ذلك هي دائماً أنيقة، تلك الأناقة غير المنسجمة مع كلّ ما عداها.
تعلّق حقيبة جلدية بيضاء كبيرة في كتف. وتحمل عكّازاً خشبياً ذا مقبض معقوف بيد، تتكئ عليه في مشيها الثقيل بالكعب العالي. فيما تحمل في اليد الأخرى كيساً نايلونياً لا تختلف محتوياته كلّ يوم: طعام قطط.
لا تتخلف يوماً. فالصيف عندها موعد بحري دائم، يمتد سبعة أشهر. موعد ربما تعود تقاليده إلى ثمانين عاماً خلت من عمرها. والمسبح المعروف في بيروت، ربما كانت شابة عندما افتتح في منتصف خمسينيات القرن الماضي، ولم يكن غيره.
عند غرف تبديل الملابس، مكان عملي، تكون كعادتها مزعجة، بوصولها، وكلامها، وحركتها، وملابسها، وصوتها، وأغراضها، وكلّ ما فيها.
وبطبيعتها، كانت تكرهني... وكنت أكرهها.
ورغم ذلك، كانت تتحدث إليّ، وكنت أتحدث إليها. أحاديث مزعجة، لا أعرف لماذا أتقبلها. وكذلك لا أعرف لماذا تتحمّل سماجتي، أنا الفتى الذي لا يتجاوز ثمانية عشر عاماً. الفتى الذي لا يكلّم أحداً، إلاّ ليسخر منه. والذي يمارس دوماً الإرهاب بحق المخلوقات الأقرب إلى قلبها... القطط.
وما أكثر القطط في ذلك المكان. وما أشدّ كرهي لها. تقفز بين الممرات، فأرميها عن بعد، بما تيسّر لي. أكتفي بهروبها، ولا أهتم بإصابتها، فلست أرغب بأكثر من ابتعادها عني.
أما هي فالقطط تلحق بها أينما ذهبت. تفتح كيسها، فتأتيها بالعشرات، وتصطف أمامها وهي تضع لها تلك الحبوب الصغيرة، تأكلها القطط بنهم، ولا تهتم بالسعر والمتجر الذي جاءت منه.
قبل ثلاثة عشر عاماً، تركت العمل هناك ونسيتها. والأسبوع الماضي بالذات، رأيتها. ما زالت تحافظ على شكلها الأزلي، وما زالت تكره الآخرين، وتثير الكراهية. لكنّني أحسست بشوق ما تجاهها. شوق سرعان ما اختفى، حين لمحت مجموعة من القطط تلحق بها.
دلالات
المساهمون