ثمّة معطيات عدة دلّت إلى قرب حدوث منعطف في الوضع الذي استقر عليه منذ سنوات مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، ومجمل منطقة جنوب دمشق، باتجاه تمكن النظام من إعادة فرض سيطرته على المنطقة، وفق سيناريو مشابه لما حدث في مناطق محيط دمشق الأخرى، وآخرها الغوطة الشرقية، ومنطقة القلمون الشرقي من بعدها.
في هذا الإطار، يحشد النظام السوري تعزيزات عسكرية كبيرة على أطراف مخيم اليرموك، بمشاركة بعض المنظمات الفلسطينية الموالية له، وفي مقدمتها "الجبهة الشعبية - القيادة العامة"، استعداداً لعمل عسكري وشيك ضد تنظيم "داعش" الذي يسيطر على الجزء الأكبر من مخيم اليرموك وكامل مدينة الحجر الأسود وأجزاء من منطقتي التضامن والقدم، فيما تسيطر فصائل المعارضة على مناطق يلدا وببيلا وعقربا وبيت سحم التي تخضع لاتفاق هدنة مع النظام منذ سنوات عدة. وذكرت صحيفة "الوطن" الموالية للنظام، أن "النظام أمهل داعش 48 ساعة للخروج من جنوب دمشق، اعتباراً من يوم أمس الخميس، قبل البدء بشن عمل عسكري وإنهاء وجود التنظيم في المنطقة واستعادة السيطرة عليها".
وحسب الناشط رامي السيد، الموجود في المنطقة، فإن "النظام طرح خلال مفاوضاته مع داعش خروج عناصره باتجاه محيط السويداء، جنوبي البلاد، لكن التنظيم رفض ذلك وطلب الخروج إلى الشمال السوري نحو منطقة قريبة من الحدود التركية"، معرباً عن اعتقاده بأنه "في حال لم يحصل اتفاق، فالأرجح أن تكون الحرب تدميرية وعنيفة وتطيح بما تبقى من المنطقة".
ولفت السيد إلى "بعض أوجه الصعوبة في التوصل إلى اتفاق بين الجانبين، مثل العثور على مكان يمكن أن يصل إليه عناصر التنظيم، خصوصاً مع تقلّص المساحات التي باتت تحت سيطرته، وعدم إمكانية ضمان سلامة المرحّلين، تحديداً بعد تهديدات سابقة كان أطلقها التحالف الدولي ضد داعش، باستهداف أي قوافل للتنظيم، كما حصل خلال تنفيذ اتفاق جرود عرسال".
أما الموقف في المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل الأخرى، فذكر السيد في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "تلك الفصائل تنتظر انتهاء ملف داعش لتلاقي مصيرها بالتهجير"، مشيراً إلى أن "الروس طرحوا عليها ثلاثة خيارات فقط، وهي العودة لحضن الوطن أو مواجهة القتال أو التهجير". ولفت إلى أن "غالبية الفصائل موافقة على الرحيل، لأن النظام لا يعدها بشيء إذا وافقت على قتال تنظيم داعش إلى جانبه، كما طرح المفاوض الروسي على تلك الفصائل".
يأتي ذلك في وقت تتوارد فيه المعلومات عن توالي خروج قياديين بارزين من تنظيم "داعش" وبرفقتهم بعض العناصر والمدنيين إلى الشمال السوري عبر حاجز بردى، الفاصل بين حي الحجر الأسود وبلدة السبينة الواقعة تحت سيطرة قوات النظام، بالتنسيق مع ضباط من قوات النظام مقابل مبالغ مالية. وحسب موقع "تجمّع ثورة" الذي يتابع الأوضاع في جنوب دمشق، فإن من أبرز الخارجين هو المدعو أيهم السيد، الملقب بـ"أبو خالد الأمني"، الذي شغل منصب أمير الأمنيين في بداية تأسيس التنظيم بجنوب دمشق، وخالد بركات "أبو عبد الرحمن التركماني"، قائد "لواء تركمان الجولان" سابقاً في الحجر الأسود، وأبو كاسم خلف المسؤول العسكري في حي العسالي، والمدعو سعد مسؤول مرأب السيارات الخاصة بالتنظيم، وذلك ضمن سياق التخلّص من أكبر عدد من مقاتلي "داعش" قبل القيام بعمل عسكري في المنطقة، بالترافق مع إدخال قادة جدد للتنظيم قد يكونون مخترقين من النظام، أو بهدف بث الشقاق والتخوين في صفوف التنظيم.
والواقع أن هذه المنطقة، أي جنوب دمشق، ومخيم اليرموك تحديداً، تعتبر منذ سنوات بحكم الساقطة عسكرياً، فالفصائل الموجودة فيها أقلّ عدداً وأضعف عتاداً، من مناطق كثيرة سيطرت عليها قوات النظام، وهي بعيدة نسبياً عن العاصمة، خلافاً للمخيم الخاضع منذ سنوات لسيطرة تنظيم "داعش"، وغير بعيد عن قلب العاصمة دمشق أكثر من 5 كيلومترات، علماً أنه أحد أحياء العاصمة، وفق التقسيم الاداري لدى النظام. ومن هنا برزت التساؤلات عن الدواعي التي دفعت النظام للإبقاء على هذا الوضع طيلة السنوات الماضية، وما الذي يأمل في تحقيقه من تغيير المعادلة كما هو متوقع في المرحلة القريبة المقبلة؟
ولعل فهم موقف النظام وسياسته تجاه هذه المنطقة، يتطلّب العودة إلى ما جرى خلال السنوات الماضية بعد اندلاع الثورة السورية في ربيع عام 2011 حين كانت منطقة جنوب دمشق تضم أكثر من مليوني نسمة، منهم قرابة المليون في مخيم اليرموك وحده، ربعهم من اللاجئين الفلسطينيين، والبقية مواطنين من جميع المحافظات السورية.
ومخيم اليرموك أكبر تجمّع للفلسطينيين خارج فلسطين المحتلة، ولطالما وصف بأنه عاصمة الشتات الفلسطيني، فكان خلال العقود الماضية حاضناً للحركة الوطنية الفلسطينية، ومنه برزت معظم القيادات الوطنية الفلسطينية. وهو ما جعله ذا رمزية كبيرة بالنسبة لمجمل الفلسطينيين. والمخيم الذي أنشئ عام 1957، طرأت عليه تطورات كثيرة. وباستثناء بعض الحارات القديمة، لم يبق من المخيم سوى اسمه، مع تحوّله إلى مدينة مزدهرة استقطبت كبار التجار في دمشق الذين افتتحوا فيه فروعاً لمحلاتهم، بالنظر إلى القوة الشرائية لسكانه، ورخص أسعار البضائع فيه قياساً لمناطق دمشق الأخرى.
ومنذ ستينيات القرن الماضي، تحوّل مخيم اليرموك إلى ساحة استقطاب للنضال الوطني الفلسطيني، ونشطت فيها مجمل الحركات الثورية الفلسطينية وفي مقدمتها حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين. لكن مع الخلافات بين النظام السوري ومنظمة التحرير الفلسطينية، تعرّض اليرموك كما غيره من المخيمات الفلسطينية لضغوط أمنية كبيرة، وتمّ اعتقال الآلاف من الفلسطينيين بتهمة انتمائهم لحركة فتح، وصودرت مكاتب الحركة. كما دعمت دمشق حركات انشقاق قام بها مسؤولون في فتح، ما أدى إلى تراجع دور مخيم اليرموك في العمل المسلح، وكذلك على مستوى الحراك السياسي، لصالح نشاط تجاري انعكس من خلال نهضة اقتصادية لافتة، أفضى إلى استقطاب عشرات آلاف السوريين للعمل والسكن فيه.
ومع تراجع حضور حركة فتح، برز دور حركتي حماس والجهاد الإسلامي في إطار محور "المقاومة والممانعة"، لكن مع اندلاع الثورة ضد نظام بشار الأسد، واتضاح التمايز بين حركة حماس والنظام السوري لرفضها دعمَ أسلوبه في التعامل مع الحراك الشعبي، خرجت قيادة الحركة من سورية تاركة الساحة لتنظيمات موالية كلياً، وفي مقدمتها "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" بقيادة أحمد جبريل.
وقد حاولت قوى شتى تجنيب المخيم تداعيات الثورة السورية، خاصة عندما تحولت إلى العمل العسكري، لكن هذه الجهود باءت بالفشل بالنظر إلى موقع المخيم التابع إدارياً لمدينة دمشق، إضافة إلى سعي النظام الحثيث لخلط الأوراق ولعب الورقة الفلسطينية بطريقة أدت في النهاية إلى تهجير معظم سكانه، وتدمير نحو 40 في المائة من منازله.
وارتسمت معالم مأساة اليرموك عندما سقطت في الثالث من أغسطس/ آب 2012 قذائف هاون عدة في حي الجاعونة، وسط المخيم القديم، وذلك قبيل أذان مغرب شهر رمضان، فقُتل أكثر من 20 شخصاً، بينهم أطفال. ثم جاءت الضربة الأخرى القاصمة في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2012، حين استهدف الطيران الحربي السوري مركز إيواء مسجد عبد القادر الحسيني، ما تسبّب بسقوط نحو مئتي شخص بين قتيل وجريح. وكانت هذه الضربة الدافع لسكان المخيم للبدء في مغادرته بشكل جماعي، مع نزوح عشرات الآلاف منهم تباعاً إلى شوارع وضواحي دمشق، ولم يعودوا إليه بعد ذلك أبداً.
ثم بدأ السكان بمغادرة المخيم رغم الحصار الجزئي الذي فرضته قوات النظام والفصائل الفلسطينية الموالية لها على المخيم نهاية عام 2013، وصولا إلى الحصار التام اعتباراً من منتصف عام 2014، بعد أن غادر نحو 90 في المائة من السكان المخيم. وظلّ فيه نحو 20 ألفاً ممن لم تساعدهم ظروفهم على الرحيل إما لكونهم مطلوبين أمنياً، أو هم من السكان الأشدّ فقراً ممن لا يقوون على استئجار منازل خارج المخيم.
وقد ذاق هؤلاء أقسى أنواع العذاب الإنساني نتيجة عدم توفر أبسط مقومات الحياة في المخيم، ما اضطرهم لتناول النباتات السامة وذبح القطط والكلاب من أجل البقاء على قيد الحياة. وحصد هذا الحصار الجائر حياة نحو 200 منهم، خصوصاً مع النقص الشديد في الرعاية الطبية، بعد تدمير معظم المرافق الصحية ومغادرة الكادر الطبي للمخيم.
ولم يقتصر الحصار على منع دخول الدواء والطعام، بل عمد النظام السوري إلى قطع المياه عن سكانه بشكل كامل اعتباراً من خريف 2014، وكذلك الكهرباء والاتصالات. والواقع أن هذا الحصار لم يقتصر على المخيم، بل شمل مجمل مناطق جنوب دمشق المتاخمة لليرموك، مثل الحجر الأسود ويلدا وببيلا وبيت سحم.
ولم تنجح كل الجهود والمبادرات التي طُرحت لاحقاً في تحييد المخيم وإعادة سكانه إليه أسوة ببعض المناطق الأخرى، لأسباب غير واضحة، وإن كان من الثابت أنه كان للنظام دور رئيسي في إفشالها، مع وجود اعتقاد راسخ لدى معظم سكان المخيم بأنه لو أراد النظام جدياً اجتياح المخيم وإخضاعه لسيطرته، لفعل ذلك خلال ساعات، خصوصاً بعد سنوات من الحصار المفروض عليه، مع عدم توفر أسلحة ثقيلة لدى القوى المختلفة المناهضة للنظام في المنطقة.
ولعل ما يفسر سياسة النظام هذه ظهور تنظيم "داعش" بقوة وبشكل مفاجئ في هذه المنطقة المحاصرة بشدة، وسيطرته خلال فترة قصيرة على مناطق واسعة من جنوب دمشق بما فيها المخيم، بالتعاون مع "جبهة النصرة" في البداية، قبل أن يختلف الطرفان في وقت لاحق. ودخلا في صراع دموي تسبب في مضاعفة معاناة مَن تبقى من سكانه ومغادرة نحو 14 ألفاً منهم إلى المناطق المتاخمة للمخيم، فلم يبق في المخيم اليوم سوى 6 آلاف يعانون الأمرّين بسبب افتقادهم لكل مقومات الحياة.
وكشفت المعطيات أن أكثر من 1300 من أبناء المخيم قُتلوا نتيجة القصف والاشتباكات أو تحت التعذيب، فيما تعرّضت كثير من مبانيه للتهديم، تحديداً في محاور الاشتباك في الجزء الشمالي المتاخم لحيي الميدان والزاهرة الدمشقيان. ويُقدّر أن 40 في المائة من مباني المخيم تعرضت للتدمير الكلي أو الجزئي.
وحول الأسباب التي دفعت النظام لترك المخيم وشأنه طيلة الفترة الماضية مع الاكتفاء بتهجير سكانه، يقول رئيس الهيئة العامة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين في الحكومة السورية المؤقتة، الناشط الحقوقي أيمن فهمي أبو هاشم، لـ"العربي الجديد"، إن "النظام كان له دور في استجرار تنظيم داعش إلى داخل المخيم بهدف استثمار الأمر سياسياً، خصوصاً خلال المفاوضات السياسية في جنيف وسواها، وإبراز دوره كمحارب للإرهاب الذي بات يتهدد العاصمة دمشق، فضلاً عن سعيه إلى تسعير الصدام بين تنظيم داعش وفصائل المعارضة التي تقاتله في محيط دمشق، بهدف إضعاف الطرفين".
ورأى أبو هاشم أن "الروس أوضحوا خلال لقاء جمعهم أخيراً مع ناشطين من مخيم اليرموك، أن "ملف مخيم اليرموك مفصول عن بقية المناطق في جنوب دمشق، وهو خارج التفاوض، فالمطروح فعلياً هو القيام بحملة عسكرية شرسة للسيطرة على المخيم بحجة محاربة تنظيم داعش. وهذا هو السبب الذي دفع النظام لتسهيل سيطرة داعش على المخيم قبل أعوام". وأضاف أن "الهدف النهائي للنظام هو تدمير المخيم ومسحه عن الخريطة، على غرار مخيمي تل الزعتر ونهر البارد في لبنان، وذلك بهدف منع عودة سكانه إليه، وتقديم ذلك كهدية لإسرائيل".
ويتخوّف المدنيون القاطنون في مناطق سيطرة التنظيم من عواقب أي عملية عسكرية كبيرة في المنطقة، بسبب افتقارها للمستشفيات الميدانية المجهّزة والمستلزمات الطبية الضرورية في حالات القصف المكثف. وقد سُجّل نزوح عدد كبير من العائلات خلال الأسبوعين الماضيين إلى بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم المجاورة. ورأى ناشطون أن "سياسة الأرض المحروقة التي يرجح أن يتبعها النظام في أحياء مخيم اليرموك والحجر الأسود ستؤدي إلى تدمير المخيم، عاصمة الشتات، والحجر الأسود، معقل أبناء الجولان السوري المحتل، وهو ما يصب بشكل مباشر في مصلحة إسرائيل".