الولاء القبلي لا يتناقض مع التحديث
هل انبعثت القبيلة العربية من رماد السنين، لتحضن العربي الهائم في فوضى الربيع العربي؟ لكن، هل ماتت القبيلة، بصفتها مؤسسة ولاء وانتماء وهوية محلية، فعلاً، قبل هذا الربيع؟
كان الناس قد استسلموا، فعلاً، لتحاليل كثيرة، تقول باكتمال بناء الدولة الوطنية الحديثة، بعد مرحلة استعمار غاشم. وأن مسار تحديث المؤسسات والمجتمعات قد اكتمل متجاوزاً أشكال الولاء، أو التضامنات التقليدية القائمة على العرق والدم. أي الولاء الغريزي (الفطري) ما قبل الدولة الحديثة. لكن، كشف الربيع العربي أن هذه القناعة أقرب إلى الأيديولوجيا التحديثية منها إلى الحقيقة الواقعية. لقد ظهر أن الولاء للأهل والعشيرة والقرابة كان كامناً في النفوس، فلما اختفى وجه الدولة، احتمى الناس بما كان لديهم قبلها، وكشف أنه لم يختف إلا بقدر ضئيل، بل لا يزال وظيفيّاً وفعالاً. أو هو غير سحنته ليختفي من أمام خطاب التحديث الذي بنى مسلماته على تناقض بنيان الدولة، وآليات عملها، مع القبيلة ومرتكزاتها الهوياتية، من دون أن يطرح السؤال عن جوهرية هذا التناقض، أو عن احتمال وجود تحديث مختلف عن تجربة بناء الدولة الغربية الحديثة التي لم تعرف أشكال الولاء القبلي المطابق مع أهمية الانتماء العروشي والقرابي في مجتمعات عربية، بنيت على هذا الأساس وكافحت به أعداءها، من دون تناقض مع أشكال حكم مركزي (وهو ما كان أعجز، سابقاً، كارل ماركس في تصنيف نمط الإنتاج الآسيوي).
لماذا كانت هذه العودة؟
أولاً، هي عودة نسبية في تجارب قطرية محددة، هي العراق واليمن وليبيا، وبدرجة أقل في تونس ومصر اللتين يبدو أن تجربة بناء الدولة (الدولنة) فيهما قد محت الولاء القبلي، أو أوشكت على ذلك.
ثانياً، نلاحظ أن البلدان التي استعاد فيها الأفراد الملجأ القبلي قد خضعت إلى الحكم العسكري الغاشم، والذي لم يتورع في استعمال القبيلة في تحشيد الولاء له، طبقاً لسياسات تقليدية، تقوم على التفريق بين العناصر لتسهيل السيادة. وليس معنى ذلك أن مصر وتونس كانتا محكومتين بديمقراطية حديثة، لكن مبدأ التفريق كان يتم على أسس حديثة بدورها، مثل تفريق بين جهات كاملة ضد أخرى، أو فئات (طبقات) ضد أخرى.
ثالثاً، وشائج الدم والقرابة كانت ملاذاً فعلياً ضد الأنظمة الغاشمة. وكان الناس يختفون داخلها ضد الظلم الداخلي. ولم يكن خطاب التحديث بإقامة أجهزة حكم حديثة على أنقاض القبيلة محل قبول أو تسليم لدى مكونات قبلية، سابقة على الدولة، بل نظر إلى تقدم الدولة على حساب القبيلة، كغزو داخلي من قبائل أخرى، لأن الحكم كان في جزء منه بيد قبيلة، لا بيد مؤسسات ما بعد قبلية.
رابعاً، اختفاء هذا الغزو الداخلي، وخصوصاً في العراق (حيث يختلط المذهب بالقبيلة، ويتعقد الوضع أكثر)، وتحت تأثير غزو خارجي، هدَّ أركان الحكم الوطني على هناتها، قد أعاد القبيلة إلى المشهد، بصفتها الدرع الأخيرة، أو بصيغة نفسية اجتماعية، الملاذ/ الوجاء الأمومي الأدنى المتبقي أمام الفرد الأعزل والمكشوف للطائرات وللجواسيس، وللاختراق المذهبي والإرهابي.
يطرح السؤال، الآن، لماذا يجب أن نسلم بأن تجربة تحديث الحكم (بناء الدولة الحديثة) يمر بالضرورة، عبر كسر أبنية الولاء التقليدية. ولقد قامت هذه الفكرة، منذ البداية، كجزء من أطروحة حكم، تقول بتطابق مسارات التحديث الغربي وكونيتها. فلا تحديث إلا ما شابه بناء الدولة الغربية. هذه كانت إحدى ثمرات احتلال نابليون مصر، وثمرة الاطلاع على الفلسفة السياسية والقانونية للبناء الحكمي الغربي بالتحديد. بما جعلها نموذجاً وحيداً للاقتداء.
من قال، إن ولاء الفرد لقبيلته يقوم بالقوة ضد ولائه لدولته؟ منع طرح هذا السؤال، ولم ير المحدثون أن جيوش الفتح، مثلاً، كانت تبنى على الولاء القبلي لتبني دولة أوسع من قبيلة، ولم تتناقض الولاءات أبداً. وأحد أسئلة الربيع العربي، الآن، هي إعادة اكتشاف طرق تحديث الأبنية السياسية، من دون تناقض مع أبنية تقليدية، لا تزال فعالة، وليست في عداء مع التحديث.