هذه المعارضة التونسية

15 أكتوبر 2016

مظاهرة في تونس ضد ترشيح الشاهد لرئاسة الحكومة (6/8/2016/الأناضول)

+ الخط -
المشهد السياسي التونسي غير مستقر، لكنه لا يتحرّك. أو لعل التوصيف الأقرب أنه يراوح في مكانه، ويعيد إنتاج معارضةٍ تشبه معارضة نظام بن علي بدون الإسلاميين، وقد أشعرت الحكومة الجديدة، التي حظيت بشبه إجماع برلماني، المراقبين بأنها حكومة في طريق مفتوح، لتفعل ما تشاء. لذلك، تبدو عديمة الحساسية لما يخرج حول مكوناتها من فضائح أخلاقية واعتداء على القانون والأعراف السائدة. 

ومن ملامح المعارضة (الجديدة أو المتجدّدة) خروج الإسلاميين (حركة النهضة) من موقع المعارض إلى شريك حكم. ويعتبر هذا الخروج حدثاً مهماً في المشهد السياسي في تونس ما بعد الثورة، فحركة النهضة، منذ ولادتها بمسمى الاتجاه الإسلامي سنة 1981 حسبت على المعارضة الراديكالية أو المتطرفة، على الرغم من سعيها إلى تقنين وضعها ضمن قانون الأحزاب السائد، وقد حرصت على البقاء ضمن الحكم في صيغته الجديدة، مع أنها لم تحتفظ بمكانتها أول حزب سياسي.
أربك هذا الخروج المواقع التقليدية لأحزاب اليسار وشخصياته غير المتحزبة التي كانت تتعيش من خدمة النظام من خارجه، بقبولها دور المهماز في يده، يهدّد بها الإسلاميين. انكسر هذا الدور الوظيفي، ووجد اليسار نفسه يخرج بالتدريج من شريك حكم غير رسمي إلى معارض مركون على جنب. لذلك، قبل جزء من هذا اليسار الالتحاق بحكومة يوسف الشاهد، لسببين مترابطين، أولهما كسر العزلة المتفاقمة التي تستفيد منها "النهضة"، بوصفها حزباً منظماً
ومنضبطاً مع شريك مشتت ومتصارع، وثانيهما مواصلة الدور الوظيفي القديم من داخل الحكم، أي عرض خدمات التضييق على الشريك النهضاوي، وهرسلته في الإدارة. فمن بقي، إذن، ليقوم بدور المعارضة من خارج الحكم؟
وقد تبيّن من مؤتمر حزب "الوطد" الموحد (اختصار لتسمية الوطنيين الديمقراطيين)، وهو أحد الأحزاب المكوّنة للجبهة الشعبية، أن الموقف السياسي للحزب يقوم على مواصلة بناء الفكر والوجود على معاداة حزب النهضة، فقد لاحظ مراقبون من داخل المؤتمر أن "النهضة" كانت حاضرة بالغياب، فلم تنطق جملةً، أو يقوم تدخل إلا على تأكيد مبدئية العداء والقطع الفكري والسياسي مع الإسلام السياسي. ولم تؤثر في هذا الموقف، وعمره أكثر من نصف قرن، معطيات التاريخ والجغرافيا والفكر الإنساني الذي يتطور خارج هذا التنظيم، ويقدم بدائل لالتقاء المختلفين.
ولم يختلف "الوطد" في هذا مع حزب العمال الذي كان اسمه حزب العمال الشيوعي التونسي، وأسقط صفة الشيوعي من التسمية بعد الثورة. لذلك، يقوم البناء الفكري للجبهة ومشروعها بالأساس (شرط وجود) على معاداة "النهضة"، والإسلاميين عموماً، وتصبح معارضة حزب نداء تونس وحكومته وبرنامجها الليبرالي المتوحش مسألة ثانية، يمكن التعامل معها بطريقةٍ مختلفةٍ، تقوم على مبدأين: إعلان المعارضة الراديكالية والتسرّب داخل الإدارة، وتعتبر وزارة التربية الآن، تحت قيادة جلول ناجي، وهو أحد وجوه "الوطد"، ميدان حرب على الإسلاميين داخلها، وعلى البرامج التي تنفذ في النظام التعليمي. لذلك، لا يمكن اعتبار الجبهة، على الرغم من تمثيلها البرلماني الحالي، معارضةً فعليةً، على الرغم من أن الدستور يمنحها قيادة المعارضة رسمياً. (ينصّ الدستور التونسي على وجوب وجود معارضةٍ داخل البرلمان، تتولى قصر لجنة المالية في البرلمان).
يوجد بين أطياف اليسار توزيع أدوار محكم يعمل أساساً على تقليص نفوذ حزب النهضة، ومنع انتشاره، بعد أن عجز عن تجفيف منابعه. بين الذين دخلوا الحكومة (حزب المسار الشيوعي سابقا) مع جزء من اليسار النقابي، وبين الذين بقوا في الجبهة الشعبية، بحيث يمكن للشاهد أن يعمل مطمئناً، لأن اليسار يخفف عنه وزن "النهضة" واشتراطاتها المحتملة داخل الحكومة. لم يعد كافياً أمام التونسيين أن تتظاهر بالمعارضة، وتقسم الغنائم مع السلطة. كان هذا المسرح ممكناً أمام بن علي، وبأمر منه.
ومن ملامح المعارضة التونسية شتات الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية. وهذه أشبه بجيش مكسيكي بامتياز. جنرالاته أكثر من جنوده، أو جنوده لا يطيعون جنرالاتهم إلا قليلا. الأسماء اللامعة عيونها على الانتخابات الرئاسية في العام 2019، ولا يرضون التنازل لبعضهم بعضاً، لتقريب موقف سياسي معارض وديمقراطي. فشلوا في الالتقاء في انتخابات 2014 البرلمانية، وشتتوا من الأصوات ما يعادل 20 إلى 25 مقعداً برلمانياً، ذهبت إلى "الوطني الحر" و"آفاق"، وهما حزبان صغيران ظهرا فجأة بعد الثورة، وتملكت المال الفاسد، واشترت الأصوات، لكنها استفادت كثيراً من شتات الأحزاب الديمقراطية.
أما حزب التكتل من أجل العمل والحريات فلم يبق منه إلا اسم زعيمه مصطفى بن جعفر، ولا نعلم إن كان سيصمد حتى 2019، وبشأن نجيب الشابي، وجه المعارضة التونسية التاريخي، فلم يبق له في الحزب الديمقراطي التقدمي إلا مكتبه. وهو بصدد ترميم صورته، بعد أن أطمعه الرئيس الباجي السبسي برئاسة الحكومة الحالية، ثم لم يمنحه حتى رئيس مصلحة، وتتعامل معه الساحة الآن بشفقة "ارحموا عزيز قوم". وأنتج الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، بعد عام من الجهد الجدي في إعادة بناء حزب سياسي حزباً صغيراً بمن حضر من حزبه القديم، يشتغل بالمرزوقي كالأصل التجاري، ولو غادره لصار أثرا بعد عين. ويبدو المرزوقي الآن مثل زاهد في صومعة يجرّ إلى الحياة السياسية جرّاً، فلا هو قطع معها بحسم، ولا قادها بقوة. وجمع حزب التيار الديمقراطي، لمحمد عبو وزوجته، كتلةً شبابية مختلطة خارج الإيديولوجيات الكلاسيكية، وبقي من أحزاب العاصمة، وصوت السيدة عبو العالي في البرلمان لا يرد إليها صداه بالانخراط في حزب زوجها. يقول الجميع، بعيداً عنهما، إنه حزب عائلة يستعد فقط لتقديم عبو لرئاسية 2019. ويهوّم عبد الرؤوف العيادي وحركة وفاء في عالمٍ من الطهورية السياسية، تحولهم بالتدريج إلى حركةٍ صوفيةٍ، على غير طريقة محدّدة. والحزب يختفي من المشهد، على الرغم من أنه أول الأحزاب التي طرحت موضوع المحاسبة قبل المصالحة، لكنه فشل في تسويقه على نطاق واسع. أما حركة الشعب، القومية الناصرية، فلا تزال تنظم مراثي في معمر القذافي، وتعيش عقدة بشار الأسد الممانع، ولا سبيل إلى خروجها من شرنقة التفكير الكلياني (الانقلابي)، على الرغم من أنها ساهمت في آخر حوار حول حكومة الشاهد.
لماذا لا يلتقي هذا الطيف الواسع من الحزيبات في جبهة ديمقراطية اجتماعية؟ تكشف الحوارات الجارية بكثافة في المواقع الاجتماعية أن الصف الثاني من القيادات في هذه الأحزاب الصغيرة، وقواعد كثيرة فيها، تريد أن تلتقي في جبهةٍ أو عمل مشترك، يكون هدفه تنظيم صف المعارضة الديمقراطي والعمل المشترك على الانتخابات التشريعية في 2019 والبلدية قبل
ذلك. لكن الحوارات جميعها تنتهي إلى مآزق، وصراعاتٍ جانبية، بعضها طفولي سخيف، لأن القيادات التي سميت أغلبها أعلاه تضع عينها على مواقعها الشخصية، والموقع الأجمل منها هو رئاسيات 2019. أو هي عاجزةٌ عن تخيل أفق عمل جبهوي، يتحرك في أفق 30 مقعداً برلمانياً، يجعل منها رقماً صعباً في كل المعادلات الحكومية المقبلة.
وأميل إلى قراءة تحرّك هذه القيادات والشخصيات على أنها تفكر لنفسها لا للبلد. لذلك، لم تتشكل المعارضة الحقيقة لحكومة الشاهد، ولمن سيأتي بعده، على الأرض، ولا يبدو أنها ستخرج من هذه القيادات، ما لم تتواضع، إلى حجمها الحالي، وتعمل على تطوير أدائها، وتضع نصب أعينها هدفاً متوسط المدى، مثل الفوز ببعض البلديات، والتموقع السليم بكتلةٍ متماسكةٍ داخل البرلمان. وليس مهما أن تشارك في الحكومات، لكن الأهم منه أن تفرض صوتاً عالياً في البرلمان، صوت كتلة لا صوت أفراد.
حتى اللحظة، يفعل الشاهد، بحكومته غريبة التكوين، ما يريد، ولا يهم إن كان بعض النواب الذين يسندون حكومته سيىء السمعة، فصوتهم في البرلمان هو ما يحتاجه. لكن الشاهد، والمعارضة بكل أطيافها، لا يريدان أن تسمع الهدير الكامن في شارعٍ مطعونٍ في ثورته.