30 مايو 2021
الوضع التونسي المتشائل
يُفرط تونسيون كثيرون في تمجيد الحلول السياسية التي توصلوا إليها لإدارة وضعهم السياسي، بعد ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010. وكلما قلل المرء أمامهم من قيمة المنجز على المدى البعيد، أو أشار إلى أن التوافقات المتبعة هي عمليات ترحيل دائمة لجوهر التناقضات بين مكونات المشهد الاجتماعية، وضعوا أمامه الحالات، السورية والليبية والمصرية واليمنية، فكأنه ملزم بأحد الحلين الواردين في مثل تونسي شعبي، قبِّل الأفعى أو اسقط في البئر. وما زاد في قوة حجة التوافقيين أن الشارع التونسي كشف هشاشة بالغةً في مواجهة الألاعيب السياسية، بما جعله عنصراً مستبعدا من التكتيكات والرسومات الاستراتيجية للأحزاب القوية، المطمئنة إلى أن هذا الشارع وكثير من زعاماته الصغيرة أصغر من أن يعترضوا على مسار التوافق، بل إنهم يرون هذه الزعامات المنفوخة تتربص بخبزة سياسية باردة، تقع بين أيديها إذا انفرط عقد التوافق القائم.
سبب التشاؤل السائد عند المراقبين أن الحرب سيئة جداً، لكن السّلم لم ينتج حياة مريحة. والخيار الباقي هو تمسك بالسيئ لاجتناب الأكثر سوءاً، وهو سياق من الفكر الإرجائي يستولد تقاليد الانحطاط التي كانت سائدة زمن الدكتاتوريات. للتقدم في هذا الاتجاه، يفرط في حسن النية تجاه اللحظة، حتى يتحول الإقناع بالاحتمال الأدنى إلى أيديولوجيا تسهل ترحيل الخلافات، ولا تحل أيًّا منها. ويستدعي إلى ذلك الظرف الدولي غير الملائم/ غير المرتاح/ الرافض للتحولات الكبرى. وبالتالي، تصبح المناورة هدفاً لذاتها، ولو انتهت بالتفريط في كل شيء. فإذا طُرِح عليها السؤال، ومتى كان الظرف الدولي مطيعاً ومساعداً. يتهم السؤال وصاحبه بالمزايدة على العاملين بالموجود، حتى يتحقق المنشود.
لم تكن هناك أرضية فكرية وبرامجية لأي توافق حصل في تونس بعد الثورة. كان توافق الترويكا باسم الحفاظ على الدولة، لكن مكوناته لم تكن منسجمة في ما بينها، لجهة الحفاظ على الموجود، أو تأسيس الجديد. ولذلك كثرت خلافاتها وتصدّعت، ثم انهارت بمجرد خروجها من الحكم. ولم يكن توافق المعارضة ضدها على أساس التأسيس للجديد، بقدر ما كانت لتخريب الموجود. ولذلك، أفلحت في التخريب، ولم تفلح في الالتقاء على البناء لاحقاً، عندما أفلحت في الانتخابات. ونصل إلى التوافق الحالي بين مكونات الرباعي الحاكم، فلا شيء يجمعهم غير رغبة الأفراد (رؤوس الأحزاب) في تملك السلطة بصفتها غنيمة. ولأن القاعدة الفكرية والبرامج منعدمة، انفجر توافق حزبي داخل التوافق الحكومي، وكشف سبباً إضافياً للتشاؤل التونسي الشعبي.
كان الجميع يعرف أن التوافق الذي قام بعد انتخابات 2014 أشبه ما يكون بطبخة حصى، لا تنتج مرقاً. ولكن اجتناب الحرب زيّن للناس السِّلم الرَّخيصة، فانتهوا إلى حالة لا حرب ولا سلم داخلية بين المكونات السياسية، وانتهينا، وهذا سيكون سببا للتشاؤم، إلى توقف النمو الاقتصادي، والعجز عن البدء بأي مشروع تنموي داخلي، ما انتظره الناس طويلاً ولم يأتهم.
لا أفق للتوافقات التونسية التي يقوم عليها الحكم اليوم، وإن ظهرت للمراقبين الخارجيين منتجة لحالة من اللاحرب. نعم، هي حالة من اللاحرب، لكنها ليست حالة من السلم الفعالة التي يمكن البناء عليها للتقدم الاقتصادي، وهو الأمر الذي يديم الحكومات، ويبني الدول القوية (وهو مطلب الثورة، وإن لم تصغه في نظرية أو برنامج).
السبب الذي أودى بالبلاد إلى هذه الخيبة، وأوجد هذا الكم الهائل من التشاؤم هو الاتجاه الذي أخذته الأحداث منذ القصبة الثانية. لجهة سيطرة النخب الحضرية التقليدية (المحافظة في جوهرها على الرغم من خطابها التقدمي). كان طرح مطلب التأسيس مطلباً ثورياً، وقد حظي بإجماع سريع من الأحزاب والجماعات الحاضرة في القصبة، بقطع النظر على اختلافها (إذ لم يختلف حوله اليسار والإسلاميون حينها ومَاشَاهُم فيه البقية) لكن إحالة أمر التأسيس إلى النخبة التي أسندت نظام المخلوع، والتي كشفت وجهها الرجعي بسرعة، في هيئة تحقيق أهداف الثورة التي ترأسها مشرِّع النظام، عياض بن عاشور، وكان ثقلها حزب المسار (الحزب الشيوعي السابق) حكم بتحجيم عملية التأسيس، وحوَّلها إلى مجرد انتقال ديمقراطي سلمي متأنٍ، يكتفي بإصلاح الموجود من دون تغييره.
وبالنظر إلى الدربة الكبيرة التي يملكها هؤلاء أمام النخب الصاعدة التي نادت بالتأسيس، فإن النجاح حالفهم في اختصار الثورة في استعادة عمل المؤسسات بأداة إدارية خربة، وبلا مشروع حقيقي للتغيير. وعلى الرغم من أن نتائج انتخابات 2011 أرسلت رسائل شعبية، جوهرها الحاجة إلى التغيير، إلا أن معركة القديم ضد الجديد انتصرت، وأفرغت الانتصار الشعبي الانتخابي من مضمونه، وأعيد طرح مسائل الهوية من جديد، وتاهت مطالب الثورة في الطريق. وهكذا، تراكمت الانحرافات التي أوصلت تونس إلى حالتها الراهنة، بصفر من النمو الاقتصادي وعزلة خارجية، وقطعت أمل الناس في التغيير.
تريد أن تكتب مقالا متفائلا، فننتهي عادةً، وبشق الأنفس، إلى التشاؤل، لكي لا تزيد في هموم التونسيين وإحباطاتهم اليومية، من غلاء المعيشة ومن ركود التنمية الاقتصادية والهروب من الاستحقاقات الانتخابية البلدية. في المنظور حكومة هشة، تسندها أحزاب غير متفقة على شيء، سوى اجتناب الأسوأ من حالات الفوضى السياسية. الساحة السياسية في حالة شلل عملياتي. لم تنجح الأحزاب الحاكمة في تقديم برنامج اقتصادي، بل اتجهت إلى توريط البلد في علاقات اقتصادية مع بنوك أجنبية. ولم تنجح المعارضات المختلفة في الاتفاق حول برنامج تحرك سياسي واجتماعي، يوجه الحكومة وجهة إيجابية. ولكن، غلّبت حالة الانتظارية المشلولة، متمنية غنيمة حكم من دون جهد ميداني.
تتسع حالة من القطيعة النفسية الآن بين الطبقة السياسية برمتها والشارع المخذول من الجميع. وهي الحالة التي قد تدفع إلى احتمالين على غاية من السوء بالنسبة لتجربة ديمقراطية ناشئة. الأول، مقاطعة الشارع السياسة، تنكيداً على السياسيين، ورفضاً لديماغوجيا الخطاب النخبوي الذي سرق منهم ثورتهم وحلمهم (ليست مختلفة عن حالة مقاطعة الانتخابات المصرية). وهنا، نلاحظ عودة موجات الهجرة السرية عبر البحر تعبيراً عن إحباط مطلق، يذكّر بما ساد تحت الديكتاتورية، وهي دليل إحباط داخلي فردي وجماعي، وليس حلا للفقر أو الإقصاء. الثاني هو انفجار عنف بلا قيادة فعلية، قد يسميه الشباب ثورة ثانية. ولكن، قد يقوم بأكبر عمليات تخريب للممتلكات، نقمة عليها، وعلى أصحابها الذين تعفف عنهم في الثورة الأولى. وكلا الاحتمالين يؤدي إلى نهاية التجربة الديمقراطية، لشكلها التوافقي المغشوش، وما أنتجه من حالة سلم غير منتجة، أي أنه سيدخل حالة الحرب الداخلية.
إنها حالة من الإلحاح على إعادة تفسير التوافق للمتوافقين أولاً، وتعبئة هذا التوافق بمضمون مقنع للناس الذين تم التوافق وراء ظهورهم. ينتظر الناس عادة نهايات سعيدة للمقالات التحليلية، تريح عقولهم من استنباط الغيب. ولكن، ليس الكاتب بأعلم من القارئ بمصير ثورةٍ خرّبتها النخب العاجزة، من دون تخيل المستقبل، لأنها تربت على استهلاك الحلول الفقيرة من الإبداع. نحتاج، هنا، إلى لحظة من الخيال الخلاق الذي يفكر في المستقبل، ولا يكبل نفسه بشروط لحظة لا يملك أسبابها، فالخروج من الصمت يتم بكلمة مجازفة.
سبب التشاؤل السائد عند المراقبين أن الحرب سيئة جداً، لكن السّلم لم ينتج حياة مريحة. والخيار الباقي هو تمسك بالسيئ لاجتناب الأكثر سوءاً، وهو سياق من الفكر الإرجائي يستولد تقاليد الانحطاط التي كانت سائدة زمن الدكتاتوريات. للتقدم في هذا الاتجاه، يفرط في حسن النية تجاه اللحظة، حتى يتحول الإقناع بالاحتمال الأدنى إلى أيديولوجيا تسهل ترحيل الخلافات، ولا تحل أيًّا منها. ويستدعي إلى ذلك الظرف الدولي غير الملائم/ غير المرتاح/ الرافض للتحولات الكبرى. وبالتالي، تصبح المناورة هدفاً لذاتها، ولو انتهت بالتفريط في كل شيء. فإذا طُرِح عليها السؤال، ومتى كان الظرف الدولي مطيعاً ومساعداً. يتهم السؤال وصاحبه بالمزايدة على العاملين بالموجود، حتى يتحقق المنشود.
لم تكن هناك أرضية فكرية وبرامجية لأي توافق حصل في تونس بعد الثورة. كان توافق الترويكا باسم الحفاظ على الدولة، لكن مكوناته لم تكن منسجمة في ما بينها، لجهة الحفاظ على الموجود، أو تأسيس الجديد. ولذلك كثرت خلافاتها وتصدّعت، ثم انهارت بمجرد خروجها من الحكم. ولم يكن توافق المعارضة ضدها على أساس التأسيس للجديد، بقدر ما كانت لتخريب الموجود. ولذلك، أفلحت في التخريب، ولم تفلح في الالتقاء على البناء لاحقاً، عندما أفلحت في الانتخابات. ونصل إلى التوافق الحالي بين مكونات الرباعي الحاكم، فلا شيء يجمعهم غير رغبة الأفراد (رؤوس الأحزاب) في تملك السلطة بصفتها غنيمة. ولأن القاعدة الفكرية والبرامج منعدمة، انفجر توافق حزبي داخل التوافق الحكومي، وكشف سبباً إضافياً للتشاؤل التونسي الشعبي.
كان الجميع يعرف أن التوافق الذي قام بعد انتخابات 2014 أشبه ما يكون بطبخة حصى، لا تنتج مرقاً. ولكن اجتناب الحرب زيّن للناس السِّلم الرَّخيصة، فانتهوا إلى حالة لا حرب ولا سلم داخلية بين المكونات السياسية، وانتهينا، وهذا سيكون سببا للتشاؤم، إلى توقف النمو الاقتصادي، والعجز عن البدء بأي مشروع تنموي داخلي، ما انتظره الناس طويلاً ولم يأتهم.
لا أفق للتوافقات التونسية التي يقوم عليها الحكم اليوم، وإن ظهرت للمراقبين الخارجيين منتجة لحالة من اللاحرب. نعم، هي حالة من اللاحرب، لكنها ليست حالة من السلم الفعالة التي يمكن البناء عليها للتقدم الاقتصادي، وهو الأمر الذي يديم الحكومات، ويبني الدول القوية (وهو مطلب الثورة، وإن لم تصغه في نظرية أو برنامج).
السبب الذي أودى بالبلاد إلى هذه الخيبة، وأوجد هذا الكم الهائل من التشاؤم هو الاتجاه الذي أخذته الأحداث منذ القصبة الثانية. لجهة سيطرة النخب الحضرية التقليدية (المحافظة في جوهرها على الرغم من خطابها التقدمي). كان طرح مطلب التأسيس مطلباً ثورياً، وقد حظي بإجماع سريع من الأحزاب والجماعات الحاضرة في القصبة، بقطع النظر على اختلافها (إذ لم يختلف حوله اليسار والإسلاميون حينها ومَاشَاهُم فيه البقية) لكن إحالة أمر التأسيس إلى النخبة التي أسندت نظام المخلوع، والتي كشفت وجهها الرجعي بسرعة، في هيئة تحقيق أهداف الثورة التي ترأسها مشرِّع النظام، عياض بن عاشور، وكان ثقلها حزب المسار (الحزب الشيوعي السابق) حكم بتحجيم عملية التأسيس، وحوَّلها إلى مجرد انتقال ديمقراطي سلمي متأنٍ، يكتفي بإصلاح الموجود من دون تغييره.
وبالنظر إلى الدربة الكبيرة التي يملكها هؤلاء أمام النخب الصاعدة التي نادت بالتأسيس، فإن النجاح حالفهم في اختصار الثورة في استعادة عمل المؤسسات بأداة إدارية خربة، وبلا مشروع حقيقي للتغيير. وعلى الرغم من أن نتائج انتخابات 2011 أرسلت رسائل شعبية، جوهرها الحاجة إلى التغيير، إلا أن معركة القديم ضد الجديد انتصرت، وأفرغت الانتصار الشعبي الانتخابي من مضمونه، وأعيد طرح مسائل الهوية من جديد، وتاهت مطالب الثورة في الطريق. وهكذا، تراكمت الانحرافات التي أوصلت تونس إلى حالتها الراهنة، بصفر من النمو الاقتصادي وعزلة خارجية، وقطعت أمل الناس في التغيير.
تريد أن تكتب مقالا متفائلا، فننتهي عادةً، وبشق الأنفس، إلى التشاؤل، لكي لا تزيد في هموم التونسيين وإحباطاتهم اليومية، من غلاء المعيشة ومن ركود التنمية الاقتصادية والهروب من الاستحقاقات الانتخابية البلدية. في المنظور حكومة هشة، تسندها أحزاب غير متفقة على شيء، سوى اجتناب الأسوأ من حالات الفوضى السياسية. الساحة السياسية في حالة شلل عملياتي. لم تنجح الأحزاب الحاكمة في تقديم برنامج اقتصادي، بل اتجهت إلى توريط البلد في علاقات اقتصادية مع بنوك أجنبية. ولم تنجح المعارضات المختلفة في الاتفاق حول برنامج تحرك سياسي واجتماعي، يوجه الحكومة وجهة إيجابية. ولكن، غلّبت حالة الانتظارية المشلولة، متمنية غنيمة حكم من دون جهد ميداني.
تتسع حالة من القطيعة النفسية الآن بين الطبقة السياسية برمتها والشارع المخذول من الجميع. وهي الحالة التي قد تدفع إلى احتمالين على غاية من السوء بالنسبة لتجربة ديمقراطية ناشئة. الأول، مقاطعة الشارع السياسة، تنكيداً على السياسيين، ورفضاً لديماغوجيا الخطاب النخبوي الذي سرق منهم ثورتهم وحلمهم (ليست مختلفة عن حالة مقاطعة الانتخابات المصرية). وهنا، نلاحظ عودة موجات الهجرة السرية عبر البحر تعبيراً عن إحباط مطلق، يذكّر بما ساد تحت الديكتاتورية، وهي دليل إحباط داخلي فردي وجماعي، وليس حلا للفقر أو الإقصاء. الثاني هو انفجار عنف بلا قيادة فعلية، قد يسميه الشباب ثورة ثانية. ولكن، قد يقوم بأكبر عمليات تخريب للممتلكات، نقمة عليها، وعلى أصحابها الذين تعفف عنهم في الثورة الأولى. وكلا الاحتمالين يؤدي إلى نهاية التجربة الديمقراطية، لشكلها التوافقي المغشوش، وما أنتجه من حالة سلم غير منتجة، أي أنه سيدخل حالة الحرب الداخلية.
إنها حالة من الإلحاح على إعادة تفسير التوافق للمتوافقين أولاً، وتعبئة هذا التوافق بمضمون مقنع للناس الذين تم التوافق وراء ظهورهم. ينتظر الناس عادة نهايات سعيدة للمقالات التحليلية، تريح عقولهم من استنباط الغيب. ولكن، ليس الكاتب بأعلم من القارئ بمصير ثورةٍ خرّبتها النخب العاجزة، من دون تخيل المستقبل، لأنها تربت على استهلاك الحلول الفقيرة من الإبداع. نحتاج، هنا، إلى لحظة من الخيال الخلاق الذي يفكر في المستقبل، ولا يكبل نفسه بشروط لحظة لا يملك أسبابها، فالخروج من الصمت يتم بكلمة مجازفة.