10 نوفمبر 2024
الوباء والمال العام
عمل فريق بحثي من المركز الوطني للبحوث العلمية في فرنسا منذ 2003 على دراسة ومحاولة مقاومة فيروسات، أحدها كورونا، وذلك إثر انتشار وباء سارس حينها. وقد انطلق هذا البرنامج بدعم مالي كبير من الاتحاد الأوروبي، لتحاشي عامل المفاجأة إن تطوّر الوباء القادم من أقصى آسيا باتجاه القارة القديمة.
وكان الهدف بسيطاً نظرياً، ويتمحور حول كيفية استباق تحولات فيروسٍ غير معروف بعد. وكان الحل، في نظر الباحثين، بسيطاً نظرياً أيضاً، ويتمثّل في محاولة دراسة مجمل الفيروسات المعروفة، لكي تتكون لديهم معرفة عميقة وممكنة التطبيق على الفيروسات الجديدة، خصوصاً طرائق ترقّب تبدلاتها، وهي التي يأتي منها الخطر. ويقول المتخصصون إن هذه الأبحاث تحتاج وقتا طويلا وجهودا هائلة وصبرا مديدا وأموالا طائلة، كما أن نتائجها متأخرة عموماً. وبالتالي، لا يمكن برمجتها مسبقاً، نظراً للتبدلات الطارئة على العنصر المدروس، وكما المفاجآت التي يمكن أن تعترض طريق البحث، والتي يعرفها جيدا من يعملون في مثل هذه المخابر الدقيقة.
إذاً، برامج البحوث هذه طويلة الأمد، للوصول غالباً إلى الترياق الشافي. ويجب أيضا أن تكون مستقلة عن المخابر الدوائية التي، وإن استثمرت أموالاً طائلة في البحث العلمي، إلا أنها تستهدف حتما الربح، وبالتالي يمكن لها الاستعاضة عن دراسة ما لا يدرّ مباشرة الوافر من المال، للتركيز على ما يمكن له أن يكون مصدر ربح سريع. والأمثلة عديدة في حقل التجارب التي تحققها هذه المخابر. كما أن بعضها وصل إلى الحصول على علاجات متقدّمة لأمراض مزمنة، إلا أنه احتفظ بها في خزائن سرّية بانتظار الانتهاء من مخزونٍ لدواء سابق لا يجوز تجارياً إغفال تصريفه.
البحث العلمي المستقل اللازم إذاً هو في أمسّ الحاجة إلى المال العام. وبالتالي، من يضع المال
في مثل هذه الأبحاث من المفترض به مبدئياً ألا ينتظر مردوداً مباشراً، ولا حتى في المدى المتوسط، بل هو يستثمر في إطار رسم سياسة سكانية صحية على مدى عقود، وبرؤية شاملة، هدفها تحسين المستوى المعيشي للناس بكل أشكال هذا التحسين من اقتصادية وتعليمية وثقافية وصحية. وفي إطار العمل الأوروبي المشترك، توصل باحثون فرنسيون كثيرون، في معهد باستور الباريسي المتخصص، كما في مخابر علمية حكومية متميّزة في المدن الأخرى، إلى نتائج مهمة منذ السنة الثانية لبدء أبحاثهم. والنتائج الهامة لا يمكن لها أن تعني إيجاد الترياق، بل على الأقل تشخيص نوعية الفيروس المدروس وتبدلاته.
المعضلة الأساسية في هذا الحقل تتمثّل في استثمارات ضخمة محلية وإقليمية، تتحرّك في أوقات عصيبة، مرتبطة بانتشار وباء أو ما شابه، وبعد الأزمة، والتي تترافق مع الجهل بإمكانية عودة الوباء، تتراجع هذه الاستثمارات وتصل إلى حدود النسيان والإهمال. وفي حال سؤالهم، يتذرّع المسؤولون بأنهم حريصون على أموال دافع الضريبة، وفي حال ظهور فيروس جديد، تسارع الجهات العامة نفسها إلى الضغط على الباحثين، لإيجاد مصلٍ فوري.
لا يمكن للعلم أن يعطي نتائج سريعة بناء على الطلب، وكذلك لا يمكن له أن يعمل في ظل الحالة الطارئة. هذه قاعدة يُجمع عليها جميع من يعمل في هذا الحقل، ولا يتفق عليها أغلب من يمسك موقع المسؤولية السياسية في الدول الغربية. وكما تُعتبر هذه القاعدة أساسية في العلوم التطبيقية،
فهي لا تختلف كثيراً في ما يتعلق بالعلوم الإنسانية. وخلال العشريتين الماضيتين، برز تراجع كبير في المبالغ المخصصة حكومياً للبحث العلمي بعيد المدى والمردود. وقد أدّى ذلك إلى بروز دور القطاع الخاص المالي والإنتاجي في تمويل البحوث العلمية. وكما تمت الإشارة إليه، فالتمويل الخاص، مهما كان منهمكاً في مسار المسؤولية الاجتماعية، إلا أنه، في نهاية المطاف، يسعى إلى تحقيق مردود مادي أولاً ومعنوي ثانياً من استثماره في مجالات العلوم كافة.
لقد تنبه الساسة الغربيون خصوصاً، في ظل أزمة الوباء المتفشّي، إلى النقص البنيوي في حقل البحوث الذي لطالما عرفت بلادهم بتقدّمها لصفوفه. وبدا من خلال مفاجأة وباء كورونا مدى الخسائر الإنسانية والاقتصادية الجمّة التي ستتأتّى عنه. وبعيداً عن أية نظرية فاشلة في إيجاد مؤامرة فيروسية محبوكة بطريقة بوليوودية، تناقلتها وسائل التواصل، ويصدقها بعضهم ويروّجونها، ستشكل هذه الأزمة منعطفاً تاريخياً يُعاد النظر من خلاله إلى أسس وممارسات رأسمالية عدة، اعتقد الليبراليون الحتميون بأفضليتها.
وإن فشلت سابقاً، على مستوى التطبيق، النظريات الاقتصادية والفلسفية المعادية للرأسمالية المتطرّفة في إيجاد بدائل إنسانية، ستنجح التجربة الوبائية، والتي نجمت وستنجم عنها خسائر بشرية ومادية فادحة، في دفع الجميع إلى إعادة تقييم الأداء في القطاع الصحي، كما البحثي. وسيُعاد النظر في تقليص دور الدولة الذي تبينت أهميته، وفضحت الأزمة هذه نقص الاعتماد عليه في السنوات الماضية، ففي القطاع الصحي، يلعب المال العام الدور الأساس في المحافظة على إنسانية رسالته. وفي القطاع البحثي، لا مفرّ من تعزيز دور المال العام في برامج البحوث الهادفة إلى إيجاد حلول مشتركة لجميع فئات البشر ومكوّناتهم.
إذاً، برامج البحوث هذه طويلة الأمد، للوصول غالباً إلى الترياق الشافي. ويجب أيضا أن تكون مستقلة عن المخابر الدوائية التي، وإن استثمرت أموالاً طائلة في البحث العلمي، إلا أنها تستهدف حتما الربح، وبالتالي يمكن لها الاستعاضة عن دراسة ما لا يدرّ مباشرة الوافر من المال، للتركيز على ما يمكن له أن يكون مصدر ربح سريع. والأمثلة عديدة في حقل التجارب التي تحققها هذه المخابر. كما أن بعضها وصل إلى الحصول على علاجات متقدّمة لأمراض مزمنة، إلا أنه احتفظ بها في خزائن سرّية بانتظار الانتهاء من مخزونٍ لدواء سابق لا يجوز تجارياً إغفال تصريفه.
البحث العلمي المستقل اللازم إذاً هو في أمسّ الحاجة إلى المال العام. وبالتالي، من يضع المال
المعضلة الأساسية في هذا الحقل تتمثّل في استثمارات ضخمة محلية وإقليمية، تتحرّك في أوقات عصيبة، مرتبطة بانتشار وباء أو ما شابه، وبعد الأزمة، والتي تترافق مع الجهل بإمكانية عودة الوباء، تتراجع هذه الاستثمارات وتصل إلى حدود النسيان والإهمال. وفي حال سؤالهم، يتذرّع المسؤولون بأنهم حريصون على أموال دافع الضريبة، وفي حال ظهور فيروس جديد، تسارع الجهات العامة نفسها إلى الضغط على الباحثين، لإيجاد مصلٍ فوري.
لا يمكن للعلم أن يعطي نتائج سريعة بناء على الطلب، وكذلك لا يمكن له أن يعمل في ظل الحالة الطارئة. هذه قاعدة يُجمع عليها جميع من يعمل في هذا الحقل، ولا يتفق عليها أغلب من يمسك موقع المسؤولية السياسية في الدول الغربية. وكما تُعتبر هذه القاعدة أساسية في العلوم التطبيقية،
لقد تنبه الساسة الغربيون خصوصاً، في ظل أزمة الوباء المتفشّي، إلى النقص البنيوي في حقل البحوث الذي لطالما عرفت بلادهم بتقدّمها لصفوفه. وبدا من خلال مفاجأة وباء كورونا مدى الخسائر الإنسانية والاقتصادية الجمّة التي ستتأتّى عنه. وبعيداً عن أية نظرية فاشلة في إيجاد مؤامرة فيروسية محبوكة بطريقة بوليوودية، تناقلتها وسائل التواصل، ويصدقها بعضهم ويروّجونها، ستشكل هذه الأزمة منعطفاً تاريخياً يُعاد النظر من خلاله إلى أسس وممارسات رأسمالية عدة، اعتقد الليبراليون الحتميون بأفضليتها.
وإن فشلت سابقاً، على مستوى التطبيق، النظريات الاقتصادية والفلسفية المعادية للرأسمالية المتطرّفة في إيجاد بدائل إنسانية، ستنجح التجربة الوبائية، والتي نجمت وستنجم عنها خسائر بشرية ومادية فادحة، في دفع الجميع إلى إعادة تقييم الأداء في القطاع الصحي، كما البحثي. وسيُعاد النظر في تقليص دور الدولة الذي تبينت أهميته، وفضحت الأزمة هذه نقص الاعتماد عليه في السنوات الماضية، ففي القطاع الصحي، يلعب المال العام الدور الأساس في المحافظة على إنسانية رسالته. وفي القطاع البحثي، لا مفرّ من تعزيز دور المال العام في برامج البحوث الهادفة إلى إيجاد حلول مشتركة لجميع فئات البشر ومكوّناتهم.