الهَوَس بالمصيبة

09 ابريل 2020
+ الخط -
في لحظةٍ من لحظات نهاري الطويل، تضيع مني كورونا. أهتم خلالها بأشياء الحياة، مثل الطبخ والذهاب إلى المصرف لشحاذة شيء من مالي. أشتري حاجيات الطبخ من دكان الحيّ، أزرع شتل جزر وحامض وتمر، أطعم الحمام والعصافير بجاط من الخبز، أشرد بهم عندما يحضرون ويتناولون الفُتات كمن يسرقها، يلوذون بها، ثم يعودون. وعندما "أخرج" إلى شرفتي "الأولمبية" ذات العشرة أمتار، لأُنهي بقية رياضة المشي البيتية، تطلع رائحة بيروت الربيعية التي لم أشمّها منذ أربعين عاماً.. وخلال تلك اللحظات "السعيدة" من يومياتي في الحبْس المنزلي، ينْتابني شعورٌ غامضٌ ومزعجٌ بالذنب؛ لا أفهمه بداية. الذنب على أية خطيئة؟ أسأل نفسي. وفي لحيظات قليلة، أدرك السبب. لقد ابتعدتُ عن كورونا؛ ابتعدتُ عن القراءة حوله، بالأخبار والنصوص المالئة للشبكة، أو بالحكي، والحكي، والحكي، مع أولادي وأحفادي، وأبناء عمومتي وأخوالي، وأصدقائي المقرَّبين.. يروون، كل على طريقته، وبحسب المكان الذي هم عالقون فيه، محبوسون، وبرواياتهم هذه، يحيون الوصل والوشائج. لكنهم أيضاً يعوّضون عن جهلي الميداني بكورونا؛ هم الموزَّعون شرقاً وغرباً. 
وعندما أجد هذا الجواب، أن ذنبي هو أنني لم أتابع خطى كورونا، يعود إليّ مئة سؤال كان 
يراودني. وبعض هذه الأسئلة لا أجد لها الكلمات.. أعود إلى القراءة والحكي، وأريح ضميري، كأنني أقوم بواجبي. مع أنه أحياناً، يمتلئ رأسي بضبابٍ كثيف، فيضيق خلْقي، أصرخ في نفسي: كفى! كفى! عودي إلى الجمال والموسيقى والأدب. ولكن هيهات. الموسيقى أستمتع بها في أثناء الرياضة، وأقول لنفسي، طوال هذا الاستماع، إنني مقصّرة في شيء ما .. وهكذا. وكذلك الجمال، والأدب.. حتى بلغت كورونا عندي مقام الهوَس. غداً يوم آخر، أنصح نفسي. غداً، سوف أتابع قراءة تلك الرواية عن شيوعيين يونانيين عشية الحرب العالمية الأولى.. عبثاً. وعندما حصلت الهزّة الأرضية ليل الخميس الجمعة، 4،3 درجات، فكرتُ، وأنا مرعوبة، بأن طبعي المتطرّف، وجدَ ما هو أكثر تطرّفاً منه: كورونا مقترناً بزلْزال. فأعود وأصف هوَسي بـ"المحمود".
هكذا، بدأتُ أطرح على نفسي أسئلة، أراها بديهية: ما هو كورونا هذا؟ ما هي أوجه استثنائيته؟ لا يشبه الحرب الأهلية، ولا النظامية. لا يشبه الانتفاضات الثورية أو النضالات الطبقية أو الحروب الاستقلالية. والعزلة التي فرضها علينا ليست رومانطيقية؛ لا يسكن لياليها ذاك الشوق الواعد، بل هي الأرض الخصبة للمشاجرات الزوجية والغرامية. أو بالعكس: غياب الآخر؛ بلا لمس، ولا شمَ، ولا حضن. بلا ذاك الدفء المنبعث من مجرّد الحضور، فتأتي الذاكرة بكل ثقلها، لتغرق فائض الغياب بالصور القديمة وحكاياتها. يعود ذاك الحنين، متحرّرا هذه المرة من الشقاء. ويكون ألبوم الصوَر.
ثم بعد فائض الغياب، فائض الوقت، المفترض أنه حرّ، وهو محبوس. ذاك التناقض الجوهري، بين الحرية والحبس، تجد أشباهاً له في عدد غير قليل من الأشكال: الصمت المطبق، السكون البشري، المتناقض كلياً مع صخب كورونا، ضحاياه، أحداثه، تمدّده، فعله في الرئة، والموت بعد ذلك، بلا طقوس ولا وداع ولا تعزية ولا حِداد. صخب كورونا، كأنه صراخ الأرض الهادر، وصراخ البشر الصامت.
وأيضا: حيث يأتي إليكَ العالم كله، إلى داخل هذا الحبس، ويغيب في آن. وجود وغياب، يتعايشان، هنا أيضاً. حيث يندمج المجال العام بالمجال الخاص، بما لا يشبه أي اندماج سبق كورونا. يسطو المجال العام على الخاص، على البيت وسكانه.. يغزوه. كأنك عائشٌ داخل تقاطع حلقتين منفصلَتين متّصلَتين، وما يجمعهما هو ذاك المعيش اليومي لمليارات من البشر. بشر متضامنون، متخاصمون. أخيارٌ وأنذال، بأبعاد خرافية أحياناً. قضيتهم واحدة، الحياة. ولكن طرقهم، أنظمتهم، مصالحهم، أحجامهم، مواردهم.. كلها مختلفة.
وكورونا مختبر قاسٍ للتصورات القديمة، وزلّات الغرب الذي يهوي أمامه. ومعها تصدّع الثقة بعلومه وطبّه ومؤسساته. الصين التي تتصدّر الصورة، وكل مكنوناتها وأسئلتها. وفضول جديد بالصين. ومرحلة القيادة المقبلة للعالم، أو تقاسم جديد للنفوذ بين الكبار طبعاً، ولسنا منهم. وفضول مثله بعلوم البكتيريا، بالطب؛ تنظيمه تمويله، بمسؤوليتنا نحن البشر، وكيف نفسّر "الكارما" عندما يكون الضحايا غير مسؤولين عما حلّ على الأرض من مصيبةٍ تاريخيةٍ اسمها فيروس كورونا. وفي كل الأحوال، من سيحقق، بعد كورونا، حول هذه المسؤولية؟ من سيؤرّخ لها؟
وبالتأكيد، نهاية تيارين سيطَرا على الأيديولوجيا الرسمية لقادة العالم الغربي: نهاية "نهاية
 التاريخ"، لفوكوياما؛ وما تحمله من "نظرية"، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، من أنه لم يبقَ من فكرة صالحة للتجنيد الفكري، غير الليبرالية الغربية؛ وقد نالت شيئا من المجد، هذه الفكرة. وأيضاً نهاية "نظرية" أخرى منافسة، لم تقلّ رواجاً، من أن ديناميكية الصراع الآن في العالم هي بين الغرب المسيحي والشرق المسلم: "صراع الحضارات" لصموئيل هنتنغتون. "النظريتان" قضت عليهما كورونا. فهل تنبعثان؟ بحلّة جديدة، "متكيّفة"؟ أم تموتان مَيْتة حق؟
طبعاً لا تكفي كل هذه الحجَج لتبيان استثنائية كورونا، ولدفع صفة التطرّف عن نفسي، فالمعركة معه لم تنتهِ بعد. وعلى حسب ما نكون قد حُبسنا، شهرا أو اثنين أو ثلاثة، ونحن نتلقى آثاره، يميناً وشمالاً.. قد تتعثر هذه الحجج، قد تتطوّر، أو تُضاف إليها أسئلة أخرى، مفردات، ومجالات أخرى من التفكير. والمستفيدون من كورونا، قد يفاجأون بأنه لم يلبِّ استغلالهم المصيبة، بتثبيت مواقعهم في السلطة، على ما يعتقدون. أنظر من الآن إلى هُزال حكامنا الذين لم ينتبهوا ماذا فعل كورونا بالناس، باقتصادياتها، باجتماعياتها وصحتهم، الجسدية والنفسية؟ أو، أنظر إلى الغالبية: هل يمكن تخيّل حياتها الآن وبعد كورونا، وخروجها من الحبس؟ ما الذي يكون تغير في وجوهها؟ ماذا يكون الدهر قد سطّر عليها من خطوط؟ وفي مشيتها، أو أناقتها؟ بعدما اعتادت على غياب العيون عنها؟ ما الذي يكون قد تغيّر في حساسيتها، في نظرها، في زوايا نظرها، في حيواتها، في جيوبها؟
إلى الذين أثبتَ كورونا صحة خطهم السياسي، أو عقيدتهم، أو تصوّراتهم السابقة عليها. والذين لا يريدون أن يسمعوا شيئاً عن كورونا؛ لأنه مُضجر، كئيب، محبِط، مكرَّر، أو أي شيء آخر. والذين يجدون في الطبخ ملاذاً نفسياً آمناً ضد كورونا. أو بالعكس، يجدون فيه فرصة لتجارة حربية جديدة، أو لتثبيت أركان حكم مهترئ... إلى كل هؤلاء: كورونا ستغير حياتنا، وربما بأكثر مما نتصوّره الآن. عيشوا كورونا كما تشاءون. ولكن لا تستصغروه. قد يكون التمرين المفيد لما بعده، الذي قد يكون أعظم.