27 أكتوبر 2024
النُخبة السياسية المصرية والعلّة المُزمنة
تمثّل النُخبة القاطرة التي تقطُر المجتمع خلفها وتسير به، فهي بمثابة ربّان السفينة، والعقل المفكّر للمجتمع، فهي التي منوطٌ بها تشكيل رؤيته، وصياغة مشروعه السياسي والثقافي والاجتماعي الذي ينطلق به نحو المستقبل، وتنعكس جودة التكوين القيمي، والفكري، والمعرفي للنخبة، انعكاساً مباشراً على جسد المجتمع، كما ينعكس مدى وحدتها أو تشرذمها على حركة المجتمع ومدى انحراف بوصلته.
عقب نجاح ثورة 25 يناير المجيدة في إطاحة حسني مبارك الذي جثم على صدر مصر 30 عاماً، كأطول ثالث حاكم بقاءً في السلطة بعد رمسيس الثاني ومحمد علي، اندلع الاستقطاب الإسلامي - العلماني "النخبوي"، والذي كان أول مسمار في نعش الثورة، بسبب حماقة تلك النخبة (بالأدقّ النكبة) السياسية، من الوجوه القديمة البالية المُفلسة التي احترفت الشقاق، وخاصمت الوفاق، وهو ما أدّى، في المحصلة النهائية، إلى انحراف مسار الثورة، وصولاً إلى الانتكاسة الكبيرة التي مُنيت بها.
الطريف أنّ كلا من طرفي الاستقطاب قد أطلق العنان لهجاء الشعب، بل وسبّه، ومعايرته بجهله وفقره، وكأنّه السبب في الفقر والجهل، فتارة وُصفَ الشعب بأنه "شعب الزيت والسكّر"، وتارة أخرى، في مرحلة لاحقة بعد 30 يونيو، وُصفَ بأنه "شعب البيادة"(!).
وبإمعان النظر في تاريخ مصر الحديث، نجد أنّ المصريين في حالة انتفاضةٍ شبه دائمة ضدّ الاستبداد والاستعمار، من أجل الحصول على حريتهم، وهو ما يدفع عن الشعب المصري تُهمة الخنوع والاستسلام التي حاول بعضهم إلصاقها به. كما نجد أنّه، في كل مرّةٍ، يحقق الشعب إنجازاً كبيراً، ويقترب فيها من بلوغ هدفه، يكون الإخفاق وتصفية هذا الإنجاز جزئياً أو كلياً، بسبب تلك النخبة السياسية التي ما فتئت تكررّ أخطاءها نفسها على مرّ العصور.
بالطبع، لا يمكن مقارنة النُخبة السياسية المصرية، في نسختها الحالية، بنظيراتها في حقبٍ
سابقة، فالأخيرة بكل ألوانها الأيديولوجية "خارج المنافسة"، فهي النخبة الأسوأ والأردأ في تاريخ مصر الحديث، كونها النتاج الطبيعي لعصر مبارك، عصر التجريف الكامل للتربة المصرية على كلّ المستويات، إلا أنّ الأخطاء تتشابه، وكادت أن تتطابق بصورة شديدة المأساوية (!).
منذ أكثر من قرنيْن، هبّ المصريون لمواجهة الحملة الفرنسية بانتفاضتيْن كبيرتيْن، شهدتا مقاومة عنيفة أجبرت الحملة على الرحيل، واستمر الشعب مُنتفضاً بعدها في مواجهة مظالم الأمراء المماليك، حتى تمكّن، بقيادة النُخبة، أو أهل الحلّ والعقد من كبار العلماء، أو الزعامة الشعبية حينذاك، وزعيمها عمر مكرم، من خلع خورشيد باشا وتولية محمد علي في العام 1805، في مشهد تاريخي بديع في سمْته الديمقراطي، عبر تطبيق مبدأ الديمقراطية الأصيل "الأمّة مصدر السلطات"، فلأول مرّة تفرض الجماهير إرادتها وتختار حاكمها بشرعية شعبية. وكان يمكن لهذا المشهد أن يكون نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ مصر، لتأسيس عقد اجتماعي جديد بين السلطة والمجتمع، تكون فيه النخبة بمثابة صوت المحكومين لدى الحاكم، عبر القيام بوظيفة المراقبة والمحاسبة، بصفتهم ممثّلين عن الشعب، وهو ما يضع حدّاً للاستبداد، آفة مصر عبر العصور، كما كتب الراحل الكبير جمال حمدان.
ولعبت الزعامة الشعبية (المتجانسة فكرياً وأيديولوجياً، فلم يكن حينذاك استقطاب إسلامي - علماني) دوراً كبيراً في تدعيم أركان حُكم محمد علي، إذ أحبطت كل المؤامرات التي دبّرها الباب العالي والمماليك ضدّه، وكان محمد علي آنذاك في الصعيد يطارد المماليك، بل إنه تلكَّأ في العودة، وبدأ يميل لمصالحتهم بعدما شعر بقرب انتصار الحملة. وفي العام 1809، نشبت أزمة بين محمد علي والزعامة الشعبية، بسبب فرض الأول ضرائب مُجحفة على الشعب، ما دفع الناس إلى اللجوء إلى العلماء الذين أيّدوا مطالبهم برفع تلك الضرائب، وبلغت قوّة العلماء حدّ رفضهم مقابلة محمد علي، مكتفين بتقديم طلب لرفع الضرائب. وعندئذٍ، تراجع محمد علي قليلاً لامتصاص حدّة الموقف، وأيقن أنّ كرسي السلطة لن يسعه، هو والزعامة الشعبية معاً، لاسيّما مركز الثقل داخلها عمر مكرم، متحيّناً الفرصة لتفريق صفّهم، وضرب وحدتهم، مستغلّاً ما يضمره بعضهم من حسد وحقد، حيال عمر مكرم ومنزلته عند الجماهير.
تمكّن محمد علي بعدها من استمالة الشيخ محمد المهدي، والشيخ محمد الدواخلي، وأعدّ معهما خطّة محكمة للإيقاع بعمر مكرم، وعزله عن بقية العلماء، ثمّ إطاحته، عبر استمالة بعضٍ من ذوي المطامع وإغرائهم. وأخيراً، نجح محمد علي في مسعاه، فأصدر أمره بعزل عمر مكرم من نقابة الأشراف، ونفيه إلى دمياط. ولم يكتفِ الشيوخ بالتآمر مع محمد علي ضدّ مكرم، كما ذكر شيخ المؤرّخين المصريين، عبد الرحمن الرافعي، في كتابه "عصر محمد علي"، بل أخذوا بعد نفيه يعملون على تصفيته معنوياً في أعين الجماهير المتعاطفة معه، عبر النيْل من سمعته، والطعن في ذمّته المالية واتهامه بالتآمر مع الأمراء المماليك.
وفي سياق روايته تلك الحادثة، كتب الرافعي: "خلا الجوّ لحسَّاد السيّد عمر مكرم والمؤتمرين
به، ولكنّهم في الواقع قد جنوا على أنفسهم، وعلى مكانتهم ونفوذهم، فإنّ المؤامرة التي دبّروها قد أسقطت منزلتهم في نظر الجمهور، وفي نظر محمد علي باشا، فالجمهور رأى في عملهم معنى الغدر والخيانة، ومحمد علي رأى فيه الضعة وصغار النفس، فلم يبقَ لهم عنده ذلك الشأن الذي كان لهم من قبل، ولم يعد يعبأ برأيهم، وسقطت تلك الزعامة الشعبية التي كانت لها المكانة العظمى، والقول والفصل في تطوّر الحوادث مدى عشر سنوات متعاقبة، وزالت عنهم تلك الهيبة التي اكتسبوها، بجهادهم وإخلاصهم وتضامنهم، وأضاعوها بتحاسدهم وتخاذلهم، ودالت دولتهم، ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة. وقد سجّل عليهم الجبرتي رأيه فيهم بقوله: إنّ الحامل لهم على ذلك كلّه الحظوظ النفسانية والحسد، مع أنّ السيّد عمر كان ظلّاً ظليلاً عليهم وعلى أهل البلد، يدافع ويرافع عنهم وعن غيرهم، ولم تقم لهم من بعد خروجه من مصر راية، ولم يزالوا بعده في انحطاط وانخفاض. وقال في موضع آخر: وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس، وانهمكوا في الأمور الدنيوية، والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية".
وهكذا أهدرت النُخبة، بحماقتها تلك، الفرصة التاريخية، وكانت المحصّلة النهائية تربّع محمد علي حاكماً فرداً على عرش مصر عقوداً، لا شكّ أنها قد شهدت نهضة، إلا أنّها كانت في إطار سعيه إلى بناء مجدٍ شخصيٍ له، وأُسريٍ لأبنائه، كما كان أساسها "دولتياً" سلطوياً بامتياز، فقد سحق محمد علي جسد المجتمع بمطرقة الدولة، وغرس بذرة الاستبداد في تربة الدولة الوطنية الحديثة بمصر، ودشّن عقداً اجتماعياً مشوّهاً، قوامه أنّ الحاكم هو "وليّ النعم"، وأنّ الرعية ما هم إلا "عبيد إحسانات أفندينا"(!).
الملهاوي والمأساوي في آنٍ معاً أنّ النُخبة السياسية أعادت إنتاج الأخطاء نفسها، في مشاهد تاريخية لاحقة، لاحت فيها فرص أخرى لكسر قيد الاستبداد، وأهدرت على الشعب ما أنجزه، ومارست هوايتها في الاتفاق على عدم الاتفاق (!)... ربما يستحقّ هذا حديثاً آخر.
عقب نجاح ثورة 25 يناير المجيدة في إطاحة حسني مبارك الذي جثم على صدر مصر 30 عاماً، كأطول ثالث حاكم بقاءً في السلطة بعد رمسيس الثاني ومحمد علي، اندلع الاستقطاب الإسلامي - العلماني "النخبوي"، والذي كان أول مسمار في نعش الثورة، بسبب حماقة تلك النخبة (بالأدقّ النكبة) السياسية، من الوجوه القديمة البالية المُفلسة التي احترفت الشقاق، وخاصمت الوفاق، وهو ما أدّى، في المحصلة النهائية، إلى انحراف مسار الثورة، وصولاً إلى الانتكاسة الكبيرة التي مُنيت بها.
الطريف أنّ كلا من طرفي الاستقطاب قد أطلق العنان لهجاء الشعب، بل وسبّه، ومعايرته بجهله وفقره، وكأنّه السبب في الفقر والجهل، فتارة وُصفَ الشعب بأنه "شعب الزيت والسكّر"، وتارة أخرى، في مرحلة لاحقة بعد 30 يونيو، وُصفَ بأنه "شعب البيادة"(!).
وبإمعان النظر في تاريخ مصر الحديث، نجد أنّ المصريين في حالة انتفاضةٍ شبه دائمة ضدّ الاستبداد والاستعمار، من أجل الحصول على حريتهم، وهو ما يدفع عن الشعب المصري تُهمة الخنوع والاستسلام التي حاول بعضهم إلصاقها به. كما نجد أنّه، في كل مرّةٍ، يحقق الشعب إنجازاً كبيراً، ويقترب فيها من بلوغ هدفه، يكون الإخفاق وتصفية هذا الإنجاز جزئياً أو كلياً، بسبب تلك النخبة السياسية التي ما فتئت تكررّ أخطاءها نفسها على مرّ العصور.
بالطبع، لا يمكن مقارنة النُخبة السياسية المصرية، في نسختها الحالية، بنظيراتها في حقبٍ
منذ أكثر من قرنيْن، هبّ المصريون لمواجهة الحملة الفرنسية بانتفاضتيْن كبيرتيْن، شهدتا مقاومة عنيفة أجبرت الحملة على الرحيل، واستمر الشعب مُنتفضاً بعدها في مواجهة مظالم الأمراء المماليك، حتى تمكّن، بقيادة النُخبة، أو أهل الحلّ والعقد من كبار العلماء، أو الزعامة الشعبية حينذاك، وزعيمها عمر مكرم، من خلع خورشيد باشا وتولية محمد علي في العام 1805، في مشهد تاريخي بديع في سمْته الديمقراطي، عبر تطبيق مبدأ الديمقراطية الأصيل "الأمّة مصدر السلطات"، فلأول مرّة تفرض الجماهير إرادتها وتختار حاكمها بشرعية شعبية. وكان يمكن لهذا المشهد أن يكون نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ مصر، لتأسيس عقد اجتماعي جديد بين السلطة والمجتمع، تكون فيه النخبة بمثابة صوت المحكومين لدى الحاكم، عبر القيام بوظيفة المراقبة والمحاسبة، بصفتهم ممثّلين عن الشعب، وهو ما يضع حدّاً للاستبداد، آفة مصر عبر العصور، كما كتب الراحل الكبير جمال حمدان.
ولعبت الزعامة الشعبية (المتجانسة فكرياً وأيديولوجياً، فلم يكن حينذاك استقطاب إسلامي - علماني) دوراً كبيراً في تدعيم أركان حُكم محمد علي، إذ أحبطت كل المؤامرات التي دبّرها الباب العالي والمماليك ضدّه، وكان محمد علي آنذاك في الصعيد يطارد المماليك، بل إنه تلكَّأ في العودة، وبدأ يميل لمصالحتهم بعدما شعر بقرب انتصار الحملة. وفي العام 1809، نشبت أزمة بين محمد علي والزعامة الشعبية، بسبب فرض الأول ضرائب مُجحفة على الشعب، ما دفع الناس إلى اللجوء إلى العلماء الذين أيّدوا مطالبهم برفع تلك الضرائب، وبلغت قوّة العلماء حدّ رفضهم مقابلة محمد علي، مكتفين بتقديم طلب لرفع الضرائب. وعندئذٍ، تراجع محمد علي قليلاً لامتصاص حدّة الموقف، وأيقن أنّ كرسي السلطة لن يسعه، هو والزعامة الشعبية معاً، لاسيّما مركز الثقل داخلها عمر مكرم، متحيّناً الفرصة لتفريق صفّهم، وضرب وحدتهم، مستغلّاً ما يضمره بعضهم من حسد وحقد، حيال عمر مكرم ومنزلته عند الجماهير.
تمكّن محمد علي بعدها من استمالة الشيخ محمد المهدي، والشيخ محمد الدواخلي، وأعدّ معهما خطّة محكمة للإيقاع بعمر مكرم، وعزله عن بقية العلماء، ثمّ إطاحته، عبر استمالة بعضٍ من ذوي المطامع وإغرائهم. وأخيراً، نجح محمد علي في مسعاه، فأصدر أمره بعزل عمر مكرم من نقابة الأشراف، ونفيه إلى دمياط. ولم يكتفِ الشيوخ بالتآمر مع محمد علي ضدّ مكرم، كما ذكر شيخ المؤرّخين المصريين، عبد الرحمن الرافعي، في كتابه "عصر محمد علي"، بل أخذوا بعد نفيه يعملون على تصفيته معنوياً في أعين الجماهير المتعاطفة معه، عبر النيْل من سمعته، والطعن في ذمّته المالية واتهامه بالتآمر مع الأمراء المماليك.
وفي سياق روايته تلك الحادثة، كتب الرافعي: "خلا الجوّ لحسَّاد السيّد عمر مكرم والمؤتمرين
وهكذا أهدرت النُخبة، بحماقتها تلك، الفرصة التاريخية، وكانت المحصّلة النهائية تربّع محمد علي حاكماً فرداً على عرش مصر عقوداً، لا شكّ أنها قد شهدت نهضة، إلا أنّها كانت في إطار سعيه إلى بناء مجدٍ شخصيٍ له، وأُسريٍ لأبنائه، كما كان أساسها "دولتياً" سلطوياً بامتياز، فقد سحق محمد علي جسد المجتمع بمطرقة الدولة، وغرس بذرة الاستبداد في تربة الدولة الوطنية الحديثة بمصر، ودشّن عقداً اجتماعياً مشوّهاً، قوامه أنّ الحاكم هو "وليّ النعم"، وأنّ الرعية ما هم إلا "عبيد إحسانات أفندينا"(!).
الملهاوي والمأساوي في آنٍ معاً أنّ النُخبة السياسية أعادت إنتاج الأخطاء نفسها، في مشاهد تاريخية لاحقة، لاحت فيها فرص أخرى لكسر قيد الاستبداد، وأهدرت على الشعب ما أنجزه، ومارست هوايتها في الاتفاق على عدم الاتفاق (!)... ربما يستحقّ هذا حديثاً آخر.