النقد السينمائي: منهج المُشاهدة والكتابة

03 فبراير 2020
"جوكر": ألوان المدرسة الوحشية في أقنعة البهلوان (من الفيلم)
+ الخط -
ما هدف الناقد؟ كيف يُعرِّف هو مهمّتَه؟
النقد فنّ القول عن الفن. الناقد السينمائي يُحلّل ويُفكّك ما يجري على الشاشة. يتحدّث عن الفيلم، لا عن السوسيولوجيا والسيكولوجيا. يُحلّل سُلّم اللقطات ومنطق تتابعها، أي السرد. يُبرز كيف تُغْني الفنون الستة الفنّ السابع. يقف عند بناء الشخصيات، ويُفسّر تطوّرها. يربط هذا كلّه بأسلوب المخرج، وموقع الكاميرا، لتجنّب قول انطباعي تعجّبي حماسي، من قبيل: جميل، رائع، جليل.

الهدف من النقد وساطة بين الفيلم والمتفرّج، لتقاسم المتعة والفهم. يقول مَثلٌ هندي: "ما أتْعَس المنظر الجميل عندما لا تجد أحداً لتُبدي له إعجابك به". مهمّة الناقد أنْ يُبدي رأيه، ويبدّد تلك التعاسة.

الكتابة عن فيلمٍ لا تعني تلخيص القصّة وكشف النهاية، ما يحرق فرصة المتفرّج في المتعة والاكتشاف. تزداد متعة الفعل النقدي بتوفّر القدرة على ملاحظة قضايا لا يراها المتفرّج العادي. وظيفة النقد تمكين المُشاهد من أنْ يرى بشكل أفضل، ويكون هذا التمكين بمدّ القارئ بشيء من اللحظة الفيلمية، بدلاً من نصّ ببغائي يُكرّر مع كلّ فيلم أحكام قيمة، مثل: (فيلم) مُدهش، مُحزن، عميق، مُذهل، مُؤثّر، أو فيلم من طراز رفيع، إلخ.

هكذا أفكّر في عملي النقدي. أتيح لي، أثناء حفل توقيع كتب في "مهرجان خريبكة للفيلم الوثائقي" (الدورة الـ11، المُقامة بين 18 و21 ديسمبر/ كانون الأول 2019)، أنْ أشرح منهجي في الكتابة، بعد طرح هذا السؤال عليّ: "أنا أقرأك وأتابعك. أنتَ تكتب ملاحظات أثناء مُشاهدة الأفلام. تأخذ ملاحظات آنية، بينما نقد الفيلم فعلٌ يحتاج إلى زمن. تكتب في اللحظة. فأين التراجع والمسافة؟ وهل مُشاهدة وحيدة تكفي للحكم على الفيلم؟".

جوابي:
أكتبُ ملاحظات فورية في الظلام، لأنّ المُشاهدة وفعل التلقّي حدسيَّان. يولد إحساسٌ، حزنٌ وحبٌ وفرحٌ آنيّ. بعد المُشاهدة، تُفرَّغ الملاحظات وتُصنّف، تبعاً لمفاهيم، كالأداء والإخراج والسرد. تُوجِد هذه المفاهيم مسافةً، لأنّها تُنظّم المعرفة. تخلق وتنظّم المسافة بين الذات والموضوع.

تُصنَّف مشاعر الحب والفرح بأنّها رومانسية. الرومانسية حركة فنية تمجّد الألم. هكذا يتمّ الانتقال في فعل النقد من الحدس إلى التحليل. هذا لا يُغني عن كثافة الزمن المخصّص للمُطالعة والمُشاهدة والعيش في عزلة طويلة، تسمح للكاتب بالوصول إلى لبّ موضوعه. تسمح المُطالعة بقنص استشهادات لامعة، تعمِّق التفكير في الفيلم.

لا تكفي مُشاهدة واحدة للكتابة عن أيّ فيلم. يُفضّل إعادة المُشاهدة مرّتين، لكنّ هذا لا يتوفّر أحياناً. وحين يتوفّر، يتمّ تسجيل الملاحظات في المُشاهدة الأولى فقط، بينما تخصّص المُشاهدة الثانية للمتعة والتأمّل. نتيجة هذه المنهجية المزدوجة مقالان لي عن فيلمَي "حدث ذات مرّة... في هوليوود" (2019) لكوانتن تارانتينو و"جوكر" (2019) لتود فيليبس. في المُشاهدة الثانية لـ"جوكر"، تمّت ملاحظة استخدام ألوان المدرسة الوحشية في أقنعة البهلوان: أحمر وأزرق وأصفر فاقع (لوحة هنري ماتيس، "المرأة ذات القبعة"، 1905). الخلفية المعرفية ضرورية لمُلاحظة الظواهر الفنية وتفسيرها.

كلّ فيلم سردٌ بالصُور، يبدأ بالرسم. منذ القرن العشرين، تمّ الانتقال من ثنائية "حكي ـ أذن"، إلى ثنائية "حكي ـ عين". الأداة الرئيسية للحكي هي الكاميرا، بديلاً عن العين.

هذا جوابي. بعد ذلك، رجعت إلى النقاط التي أحرّرها عن طريقة عملي، ووجدت شذرات تعرض الكتابة عن فعل كتابة النقد. هذا لبّها:
أنْ تنتقدَ فيلماً، يعني أنْ تحرّر رأياً تقييمياً مُعلّلاً. قبل النقد، لا بُدّ من معرفة وإعلان معايير التقييم.

للنقد السينمائي ثلاثة أعمدة تسنده وتمدّه بلغة اصطلاحية: السرديات والرسم والأنتربولوجيا. النقد السينمائي مجموع نقد الفنون الستة السابقة على السينما، خاصة نقد المسرح والرواية والفن التشكيلي. هضمَتْ السينما الفنون السابقة عليها. هذا يُجبر النقّاد على الاطّلاع على تلك الفنون.
"النقد هو مُطالبة النص بالتدليل على وسائله، أو مضامينه"، كما يقول المغربي طه عبد الرحمن. وسائل الفيلم هي: الصورة والحدث وبناء الشخصية. وسائل الفيلم مستعارة من الفنون السابقة على السينما، مُجمَّعة في فنّ واحد.

النتيجة مفاهيم مقتبسة من الفنون السابقة للسينما زائد المفاهيم السينمائية المبتكرة منذ قرن.
أساساً، كلّ فيلم سردٌ. قانون الحكاية يؤطِّر أفق انتظار المتفرّج. كلّ مُتفرّج ينتظر أنْ تحكي له الكاميرا، كما حكت شهرزاد. لذا، فإنّ تعلّم النقد من مدخل السرد أفضل من محاولة تعلّمه من مدخل المفاهيم. السرد تقليدٌ شفهيّ عريقٌ، حسّي وواقعي وشامل وحيوي واجتماعي. المفاهيم نظرية تجريدية ظهرت متأخّرة. الفنّ حكيٌ أساساً. مَشَاهد تولّد أحاسيس. كلّ تجريد مفاهيمي يُبدّد هذه المعايشة ومتعة المتفرّج. لذا، يجب أن يكون النقد سردياً حسّياً حيوياً، لا أنْ يغرق في التصنيف والتجريد.

طبعاً، يحضر المفهوم في عنوان المقالة. عنوان يُحدّد طريقة المقاربة، ويطرح فرضية ستُثبت المقالة وجودها، وتُفسّرها. للمقالة عنوان مفاهيمي لا معلومة صحافية. المفهوم يضع فرضية، ووظيفة الفرض "أنْ يُفسّر بقدر ما يعلّل الظواهر، ويتنبأ بالمستقبل" ("حكمة الغرب"، برتراند راسل، الجزء 2، ص. 267). يوجّه مفهوم العنوان الملاحظات الأساسية عن الفيلم وتوصيفه.

للكتابة بهذه الطريقة، لا بُدّ من منهج. "المنهج شيء نكتسبه بالممارسة"، بحسب راسل (م. س.، ص. 69). هذا يتطلّب ساعات عمل كثيرة يومياً. ساعات مُشاهدة ومُطالعة وكتابة ومُراجعة.

إذا كانت الكتابة عن الأفلام الرديئة محنة، فإنّ الكتابة عن الأفلام العظيمة متعة. يمكن التمييز بين منهجين في الكتابة: الأول كتابة أفقية (إخبارية مع ومضات نقدية)، والثاني كتابة عمودية، تتعمّق لتُحلّل، بمعجمٍ فنّي مُتخصّص.

تُستخدم الطريقة الأولى لنشر أسطر على مواقع التواصل الاجتماعي. الطريقة الثانية لتحرير نصّ نقدّي بمعجم سينمائي حداثي، يستلهم معجمه من السرديات والتشكيل ولغة التقطيع السينمائي، لتجنّب تحرير نص يندرج في النقد الأدبي، لأنّه يستعير معجم وأسلوب الناقد الأدبي المصري شوقي ضيف (1910 ـ 2005) في نقد الأدب القديم.

أكتبُ من أجل فهم كيفية صناعة السرد الفيلمي، أكثر ممّا لإصدار حكم تقييمي. تجري محاولة الفهم بتفكيك السرد الفيلمي، للوقوف على نقاط قوته وضعفه، وليس لإعلان موقف إعجاب أو نفور.

أوّل مهمّة في مقالة النقد السينمائي تكمن في وصف ما شوهد لمن لم يشاهد، أو لمن شاهد بعين عادية. المهمّة الثانية: التحليل، والثالثة تعليق وتفسير. من الجيّد أن تُختم المقالة بالذوق، لا أن تبدأ به. إصدار حكم مستقلّ عن كلّ مصلحة. حكم ذوق ومتعة.
المساهمون