النادي العالمي للقتلة

03 اغسطس 2016
+ الخط -
القتلة في كل مكان. في الشارع، في مترو المواصلات، في المستشفى، في الكنيسة، في مطعم الوجبات السريعة، في المطار، في مكاتب الصحيفة، في حدائق المواطنين العاديين. في كل مكان.
رعب القتل السهل يتسرب إلى داخلنا هذا الصيف. يشلّ، إلى جانب الحرارة المرتفعة، قدرتنا على الاستمرار، أو يشحذها، باعتبار أننا لا ندري متى سوف نتناقل أخبار اعتداءٍ جديد، أو نكون ضحاياه. القاسم المشترك في كل هذه الاعتداءات أنه لم يعد يوجد مكان آمن أو أقل خطراً أو أقل إمكانيةً للاستهداف. القاسم المشترك للقتلة أنه لم يعد لهم وجه واضح سياسي أو ديني أو سوسيولوجي. ما يجمع هؤلاء بالتأكيد سيرهم الذاتية القاتمة، سادية القتل أو سادية الانتقام التي باتت "داعش" العراب الأول لها.
يلهث الإعلام من تغطية اعتداء إلى محاولة فهم آخر. "عجقة" الاعتداءات سرقت الأضواء التي يُغدقها عادة الإعلام على "أبطال" هذه الاعتداءات، ليتحوّل هؤلاء إلى وجوهٍ عابرةٍ تتسابق إلى حذف بعضها بعضاً. القتلة ليسوا بالضرورة إسلاميين متطرّفين. هم ليسوا بالضرورة أيضا من "جنود" داعش. ليسوا بالضرورة مدجّجين بالسلاح، أو انتحاريين، أو مدربين على تنفيذ هجماتٍ معقدة. هم ليسوا بالضرورة من حملة خطاب سياسيٍّ ما، أو من المهووسين بحوريات الجنة. هم أفراد أولاً ينتمون إلى رغبة جامحةٍ بالإنتقام وسادية القتل. تكاد بذلك "داعش" أن تكون مجرّد منصةٍ لا غير، مهمتها أن تمنح هذا الغضب اعترافاً وبطولةً ما.
لم يكن منفذ الاعتداء بالشاحنة في مدينة نيس الفرنسية، بحسب الصحافة، متديّناً، بل كان يجمع بين تمجيد "داعش" وملاحقة النساء.لم يكن التونسي المقيم في فرنسا ينتمي رسمياً إلى المنظمة الإرهابية، إلا أن المعلومات التي نشرتها الصحافة الفرنسية، أخيراً، تؤكد أنه كان يمجد "داعش" علناً في وسائط الإعلام الحديث، وأنه ينتمي إلى مجموعةٍ شاركته، أو على الأقل أطلعها على خططه لقتل المدنيين. تشفى علناً بالهجوم الإرهابي على صحافيي مجلة شارلي إيبدو الفرنسية الساخرة، مغتبطاً لتنفيذ من سماهم "جنود الله" الهجوم. رغبة القتل معلنةٌ إذن، ومتبادلة مع آخرين، يعبر عنها حاملها في وضح النهار، ومن دون حاجةٍ لإخفائها. منفذ إعتداء نيس مريض نفسي، كما يبدو من رواية الصحافة، فهو مطلق ومستوحد وعنيف، ويجمع بين التعصب الديني والولع بالنساء ورقص السالسا. وصفته إحدى النساء التي تعرّضت لملاحقة شديدة منه، في حديث لمجلة "لو نوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية بـ "الحثالة"، وقالت إنه استخدم كل السبل لمطاردتها خمس سنوات.
منفذا الاعتداء على كنيسة مدينة روان الفرنسية في النورماندي يقدّمان صورة كلاسيكية
لـ"جنود" داعش. بحسب صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية، أحدهما كان قد أوقف في تركيا حيث أمضى أشهراً في السجن، لمحاولته العبور إلى سورية للانضمام إلى "داعش"، ووضع بعدها تحت المراقبة. من الصراخ باسم "داعش" إلى الهتاف "الله أكبر"، يقدم القاتلان صورة عادية، ولو أن الهدف، هذه المرة، مسيحي كاثوليكي وثيق الصلة بخطاب المنظمة الإرهابية ضد الغرب المسيحي "الصليبي".
على خلاف قاتلي كاهن الكنيسة، فإن مهاجم مطعم الوجبات السريعة في مدينة ميونيخ الألمانية صرخ "أنا ألماني"، قبل أن يبدأ إطلاق النار على الرواد. الشاب القاتل مولود في ميونيخ من أبوين إيرانيين، فخورٌ باعتقاده أنه ينتمي للعرق الآري، وبكرهه العرب والأتراك، وبأن ذكرى ميلاده تتوافق مع ميلاد هتلر. يبدو قاتل ميونيخ وحيداً في التخطيط لجريمته، بإطلاق صفحة خاصة على "فيسبوك"، أوهمت الضحايا بوجود عروضٍ مجانيةٍ على الطعام في مطعم ماكدونالد ساعة تنفيذ الهجوم. كل ضحايا القاتل من أصول اغترابية. وتظهر تفاصيل التحقيق أنه كان على اتصالٍ مع صبي آخر، مولع بالقتل، كان قد اعترف بالتخطيط لعملية قتل جماعية، باقتناء كتيبات معلوماتٍ عن إعداد القنابل. كان ملهم قاتل ميونيخ مرتكب عملية القتل الجماعي في النرويج من اليمين المتطرف، أندرس بريفيك، ومنفذ عملية قتل جماعي في مدرسة في جنوب شرق ألمانيا.
ومن القتل "الأبيض" إلى القتل "الرحيم". الشاب الياباني منفذ عملية قتل جماعية في أحد مراكز العناية بالمعوقين في بلدة جنوب غرب طوكيو، ما أدى إلى مقتل 19 معوقاً، وإصابة آخرين بجروح خطرة، كان موظفاً سابقاً في المركز. أعلن القاتل الذي سلم نفسه للشرطة أن دافعه كان المطالبة بحق المعوقين في حالةٍ صحيةٍ متدهورة الاستفادة من القتل الرحيم بعد موافقة أولياء الأمر. اختار القاتل أن يطعن ضحاياه بالسكين، في أثناء نومهم. لم يكن قتله رحيماً. مثل قتلة آخرين، كان قد تلقى علاجاً نفسياً بعدما أعلن نيته قتل معوقين، مما دفع إلى طرده من عمله، وإدخاله مصحاً نفسياً فترة محدودة.
تلك عيّنة صغيرة فقط من القتلة، لكثرة ما أصبحت العناوين الأولى للصحف حبلى بأخبار جرائمهم. يحمل معظم هؤلاء سيراً شخصية قاتمة. مع قصص هؤلاء الفردية جدا، على اختلاطها بعوامل الهوية والسياسة والدين والاندماج والاغتراب، تبدو "داعش" كأنها ناد عالمي لهواة القتل، بكل أشكاله وأنواعه وألوانه ووسائله.
قرّر قسم من الصحافة الفرنسية بعد اعتداء كنسية النورماندي أن لا ينشر صور القتلة. قال مدير صحيفة "لوموند" إن هدف الإجراء الحؤول دون تمجيد القتلة، ووضعهم برتبة ضحاياهم أنفسها. ووجه مدير تحرير الصحيفة تعليماتٍ إلى الصحافيين بأن الحظر هو فقط على الصور التي تتناول هؤلاء في حياتهم اليومية، أو التي التقطوها لأنفسهم، قبيل الإقدام على جرائمهم، مذكّرا بأن الصحيفة توقفت، منذ زمن، عن نشر المواد الدعائية لمواقع المنظمات الإرهابية، ولو حملت قيمةً إخبارية. قد يبدو التحليل مصيباً. ولكن، عبر حذف صور الحياة اليومية الشخصية للقتلة، كيف يمكن أن نفهم مسيرة هؤلاء وهوية نادي القتلة الجديد ورواده؟ للنقاش صلة.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.