منذ سبع سنوات وأنا أتلقى التعازي.. لقد مات أنفي. لست حزيناً الآن، ربما فقدتُ متعة تشمم نهود النساء، لكن لا بأس، فالملايين أيضاً لا تزال أنوفهم على قيد الحياة، إلا أنهم لا يتذكرون شيئاً عن ألوهية تلك الرائحة.
منذ سبع سنوات اكتشفتُ وجودها.. نظرتُ في مرآة المغسلة، فلاحظتُ نقطة سوداء في تجويف أذني اليمنى بحجم رأس القلم. ظننتها شامة عادية ظهرت بمناسبة الحرب، فلما انتهت الحرب لاحظتُ أن النقطة السوداء تفاقمت وغدت بحجم محيط رأس القلم. لست قلقاً، ولا أرغب في رؤية الأطباء، ليكن ما يكون، سأعيش ما يكفيني من الوقت.
كنت أفكر في شراء مرآة جديدة، تهيأ لي أن مرآة المغسلة مشروخة. أتقدم بالشكر إلى محبوبتي قمر، لأنها جعلتني أوفر ثمن المرآة عندما صارحتني همساً بأن في وجهي شرخاً يمتد من صوان أذني اليمنى وحتى المكان الذي كان يشغله المرحوم أنفي. إنه أخدود بلا قعر، لا نهائي، ابتلع أنفي الطيب في غفلة مني وأنا نائم. شيء مرعب أن تستيقظ في الصباح ولا تجد أنفك الأليف في مكانه، الأسوأ أن تنتابك الهواجس بأن قتيلاً مجدوع الأنف قد سرقه منك.
بين زلزال وآخر كانت شظايا دقيقة الحجم جداً تهلُّ من وجهي ذي الاصفرار الخريفي. لا أحد يتفهم مقدار الذهول المروع الذي ينهش إنساناً ما بدأ يفقد ملامح وجهه تدريجياً.
آخر مرة تسكعتُ بشارع "حدة" كانت قبل سبع سنوات، أذكر أنه ترك في نفسي انطباعاً مشوشاً عن نوعية الجلد الذي يرتديه سكانه. ما زاد في اضطرابي أن الهواء كان مُشبعاً بالرغوة، والملايين من الفقاقيع الملونة تنهمر من النوافذ المفتوحة. كانت المحلات التجارية تلعب في الهزيع الأخير من الليل "القفز فوق الحبل" وتستخدم الخط الإسفلتي حبلاً. كانت المساكن ساحة شطرنجية عظيمة الأبعاد، والبيادق تتقدم لتأمين الملك، والخيول تناور بحسب احتياجات الوزير. كنت أتفرج على المباراة وأنا جالس في استديو تصوير منخفض عن سطح الأرض كجحر فأر.
أتى واحد من المشاركين في تلك اللعبة ليستضيفني في داره. أمّلتُ أن أشاهد وجه امرأة حسناء لكي تهبني فألاً حسناً قبيل ولوجي إلى بيت سيدي الذي أنا بصحبته الآن. لكن حاستي السادسة تهاوت فاقدة الوعي عندما رأيتُ سبع نساء لهن جمال صارخ، يجعل القلب يشبُ بين الضلوع لوعة، إلا أن نصفهن السفلي كان هيكلاً عظمياً، جعل قلبي يشب فعلاً من بين ضلوعي، ويفر إلى أحد الأزقة الخلفية، ولم أعرف بعد ذلك إلى أين ألقت به المقادير.
سرت قشعريرة في بدني حين فكرت بأن عرائس البحر المُغويات قد نقلن نشاطهن إلى البر، وأن اللذة المبذولة تأدلجت وتسيّست منذ أتقنَّ اللعب بذلاقة الأفيال، وصار اسمهن الحركي "عرائس القبر".
حاولتُ التملص من دعوة صاحبي، يا الله كان في تلك الليلة المعتمة أشبه بقفل اختفى مفتاحه في جوف كلب بوليسي اصطادته إحدى الأرامل لتفتش عنه في سريرها.
كان يسكن في فيلا فخمة بحديقة واسعة مُعشّبة. أدخلني إلى الديوان العربي، ثم غادر بعد تلقيه مكالمة هاتفية مُقتضبة وتركني وحيداً. كانت الجدران مُلبّسة بطبقة من الذهب، ومحفور عليها علامات وأرقام أوراق الشدة الاثنتين والخمسين. وخلب لبي منظر السقف المرصع بعدد لا يحصى من فصوص العقيق.
كان دفتر مذكراته ملقىً بإهمال عند أرجل "المداعة" (النارجيلة) المتأنقة ذات الفتحات السبع التي تبدو كلعبة دوّارة في مدينة الملاهي. فكرت بمقدار المتعة التي سأجنيها من قراءة صفحات صاحبي المُحدث النعمة حول مغامراته النسائية. بتلهف قلّبتُ صفحات الدفتر، ولفتت انتباهي صفحات مدعوكة، فحزرتُ أنها الأثيرة لديه، فصممتُ على قراءتها:
"حلّت نهايتي.. هذه السطور وصيتي لمن سيأتي من بعدي.. لقد استنفدت كل وسائل المقاومة ولم يبق لدي سوى الكتابة، ربما لأتسلى، ربما لأقلل رعبي من انطفاء حياتي.. تلك الحياة التي ليتها لم تكن! أليس لديك شيء ما تندم عليه مثلي؟ أليس يؤرقك سر صغير تتمنى لو تدفنه في ركن قصي من ذاكرتك؟ ذلك السر الذي في يوم من الأيام قلب حياتك رأساً على عقب وجعلك تُغيّر نظرتك للحياة برمتها؟ أنا أيضاً عندي سر صغير جداً يخصني وحدي، سر يبدد طمأنينة حياتي، وأشعر بالتوجس من البوح به.. إنني أكتم سري بداخلي وكأنه مارد بداخل قمقم رأسي، ولكنني إذا سمحت له بالخروج فلسوف يحتويني هو بداخله، وأصبح أنا الحبيس في قمقمه الذي كان له.. إن أثقل شيء حمله الإنسان هو السر، وأنا صرتُ طريح الفراش محموماً أعاني من انهيار صحتي. الأطباء لاحظوا الأعراض الغريبة التي تفشّت في جسدي، وبالأخص البقعة السوداء في الجزء الأيمن من وجهي، ونصحوني بالتخلص من سري بأسرع ما يمكن قلب أن يُسبب لي الوفاة. لمن أُفشي هذا السر وأضمن أنه لن ينتشر؟! إن هذا السر إذا ما ذاع و علم به (...) فإنهم لن يغمض لهم جفن حتى يقبضوا عليّ ويمزقوني إلى أشلاء.. قررت آخر الأمر أن أجرب علاجاً مشكوكاً في قدرته على إيقاف زحف البقعة السوداء على جسدي، وعزمتُ على كتابة سري في هذا الدفتر، رغم المخاطر من عثور أحدهم عليه. وما إن وضعتُ رأس القلم لأفضح سري على الورق، وبالكاد أثبتُّ نقطة سوداء تكاد لا ترى، حتى فرت النقطة السوداء إلى ركن غرفتي! تنهدتُ بارتياح وكأنما أخرجتُ جنياً من جسدي، ثم فكرتُ فيما لو أنني واصلتُ فضح سري على الورق فإنها – أي النقطة السوداء- ستتضاءل حتى تختفي تماماً بالتزامن مع انتهائي من الكتابة. لكنني ما إن كتبتُ كلمة "أعترف" حتى شاخ القلم في يدي وانحنى ظهره، ثم توكأ على سبابتي بعد فقدانه البصر. ظللتُ مشدوهاً دقائق عديدة أُراقبُ ما يحدث لقلمي من ظواهر مرعبة بذهول عميق. ثم ما لبث بعدها أن أطق حشرجاته الأخيرة مختنقاً بسري، وصار في يدي جثة هامدة. كانت يدي ترتعش، وعروقها ترسل نبضات غريبة، ووجهي محتقن ينز عرقاً، وأنا حينئذ أشعر بدوار رهيب جعلني أهذي، وأفقد القدرة على تمييز الجهات والاتجاهات، فلم أعد أُميّز يدي اليمني عن اليسرى، وكأن قوة غامضة حطمت بوصلتي الداخلية. كنت على وشك فقدان عقلي، ويا ليت ذاك حدث، لأنني قبل الجنون بلحظة حانت مني التفاتة، فضيّعتُ آخر أمل لي في النجاة.. رحتُ أبحلق في شيء انتصب أمامي، ليس له اسم، ولو كان له اسم لابتلعه، ولم يخطر ببال بشر، ولو خطر ببالهم لانتهى الحال بهم إلى العدم.. إنها النقطة السوداء وقد تضخمت وتوحشت حتى صارت في حجمي تماماً، وقد برزت منها سبعة أذرع مخيفة لا تكف عن الدوران البطيء. تبخر الدوار، وغاض الجنون تحت الجفون، وابتعدتُ مذعوراً حينما أبصرتُ البقعة السوداء تزحف نحوي للانقضاض عليّ. قذفتها بالكرسي ، فغاب الكرسي في المجهول. عندئذ شعرتُ بالرعب الشديد من تلك البقعة السوداء المسطحة كالمرآة.. فأين اختفى الكرسي وليس ثمة جوف لهذه المصيبة المريعة؟! رحتُ أقذفها بكل ما تقع عليه يدي من أثاث الغرفة، رميتها بأشياء حادة، وأشياء ثقيلة، غابت كلها في سواد سحيق، ولم أكن أسمع أي صوت ارتدادي لها. كانت تتحرك ببطء، فتمكنتُ من مراوغتها والإفلات منها. وبعد فشل كل محاولاتي لردعها انهارت شجاعتي، فقررت أن ألوذ بالفرار. أحسستُ وكأن خازوقاً بطول وادي حضرموت يخترق أحشائي عندما لم أجد باب الغرفة، هرولتُ إلى النافذة، هي الأخرى لم تكن موجودة. سالت الدموع من عيني وأيقنتُ أنني مسجون ولا مخرج لي مطلقاً. كرّت سبع ساعات وأنا أهربُ من ركن لآخر في مطاردة مضنية، أصابتني بالإنهاك البالغ، وأتلفت أعصابي، وأوشكتُ أن أصاب بالعمى من طول التحديق في تلك البقعة السوداء الشرهة. هاأنذا أستسلم وأتكوم في إحدى الزوايا، وأنا أبذل جهداً لأستنشق الهواء الذي يكاد ينفد، وقد صرتُ مبللاً بالعرق كغريق في البحر. حملتُ معي الدفتر والقلم، لأن آخر شيء قررتُ أن فعله هو تدوين تفاصيل اختفائي، أو موتي، هذه النهاية التي لم يسبقني إليها أحد.. رويداً رويداً أخذت البقعة السوداء تبتلعني من أصابع قدمي بهدوء صامت، اقشعرت منه روحي ووقفت له كل شعرة في جلدي.. راقبتُ بخضوع الاختفاء البطيء لجسدي الغالي في شيء مظلم يصعد من تحتي إلى أعلى.. أعلى. رفعتُ يديّ إلى فوق رأسي لتواصلا الكتابة والحياة.. ها هي ذي البقعة السوداء توالي غزوها وتلتهم عنقي.. عمّا قريب سأمسي محبوساً في القمقم المظلم الذي كان لسري، وسوف يحتويني بداخله، ويحرص جداً على أن يُبقيني سراً خاصاً به، لا يمكن أبداً أن يبوح به لأي كائن من كان.
لذلك أنا أُحذرك منه عندما تقابله، لكي لا تبتلى بذات المصير، وينجح في تحريض سرك فينقلب عليك ويتسيّدك! مُتيقن أنا من أنه سينتحل شخصيتي، وسيعاشر زوجتي بدلاً عني، وسيعبثُ بأموالي وذكرياتي مُتخذاً اسمي ولقبي، ولكنه بالطبع ليس أنا.. صدقني أنا لست أكذب عندما أُخبرك بأنني سأتحول إلى سر صغير مدفون تحت حراسة مشددة في ذاكرة الشخص الذي قد تراه يوماً ما يمشي أمامك، فما ذلك المخلوق المزيف إن هو إلا سري الصغير الذي حرصتُ دوماً على مواراته عن الأنظار، وحتى عن ذاكرتي. لم أعد أرى الآن.. أكتب هذه الكلمات معتمداً على إحساسي، لقد اكتسحت البقعة السوداء مُقلتيّ.. ربما أنت لا تصدق هذه الواقعة الحقيقية، مع أن الكثيرين مُصابون بهذا الالتباس.. ولعلك أحدهم وأنت لا تدري.. لقد اخترعنا آلات تميز بين العملة الصحيحة والعملة المزيفة، أفليس بالإمكان اختراع آلة تميز بين الإنسان الحقيقي والإنسان المزيف؟! أشعر بخدر خفيف.. تجذبني دوامة للدوران معها.. أشعر بأنني أتحول إلى ذبذبات.. تسطع فجأة أكوان لا نهائية.. وداعاً أيها ا..ل..ع..ا..".
عندما تركت دفتر مذكرات صاحبي يُفلتُ من بين يدي داهمتني أغرب الأحاسيس التي يمكن ورودها على البال.. أيمكن أن يكون صاحبي الذي جئت أنا وهو يداً بيد إلى هنا ما هو إلا شخصية مزيفة؟؟ يا خفي الألطاف، كيف أُنقذ صاحبي الحقيقي، وهل من سبيل للوصول إليه؟؟ يا رب القيامة، كيف سأتصرف مع ذلك الشخص المزيف عندما يعود وقد اكتشفتُ حقيقته؟! هل يُجدي إبلاغ السلطات عن حالة التباس هي برمتها غير مادية، وهو الأمر الذي تمقته الشرطة.. اصطكت ركبتاي رعباً عندما سمعتُ باب الفيلا الضخم يُفتح. قررتُ نسيان كل شيء والتصرف معه كأنني ما عرفتُ شيئا. أعدتُ دفتر المذكرات إلى موضعه، وتحريتُ أن أبدو منشغلاً، فلم أجد ما يبعدني عن الشبهات سوى تأمل سبع ساعات جدارية تشير إلى التوقيت المحلي في سبع عواصم أجنبية. كان أمراً عجيباً للغاية أن أجهل الوقت في بلادي وأنا أنظر إلى تلك الساعات التي لم تكن مهتمة بوقتنا. تنهدتُ مُفلتاً استغاثة كئيبة: "يا أول، لماذا قدّرت علينا أن نعيش في أزمنة الآخرين؟!".
انقبضت روحي وجف حلقي عندما رأيتُ صاحبي المزيف يدخل متمهلاً. نظر إليّ بتودد، ثم راح يتأمل صورة فوتوغرافية كبيرة لها برواز من الذهب الخالص. كانت الصورة حالكة السواد، ولست أدري كيف خطر ببالي فجأة أن تلك الصورة ما هي إلا صاحبي الحقيقي الذي التهمته البقعة السوداء! كدتُ أصرخ طالباً النجدة، حاولت، كان فمي مشدود الوثاق بخيوط ابتسامة متزلفة ملائمة لظروف المرحلة.
انتزع من الجدار الصورة المتفحمة، فرأيتُ خلفها خزانة سرية تنبعثُ منها رائحة جثث متفسخة. استخرج الصورة القديمة من البرواز وشققها نتفاً صغيرة، ثم أحرقها بعود ثقاب باستمتاع وتلذذ مُقزز في منفضة السجائر. امتدت يداه إليّ وأدخلني في البرواز، ثم علقني على الجدار ليستر خزانته السرية العفنة عن أنظار الناس. نعم لقد كنت أنا صورته الفوتوغرافية الجديدة آنذاك.
ذلك هو ما حدث قبل سبع سنوات.. أما الآن فأعتقد أن وجهي قد فقد كل ملامحه، وأن الأخدود الذي بدأ بالامتداد من صوان أذني اليمنى قد اتسع نزولاً إلى الحيز الفارغ الذي كان يشغله قلبي، ذاك الذي لا أعلم حتى اللحظة أين ألقت به المقادير.. آه يا قلبي لماذا تركتني؟؟
مع كل خسوف للقمر كنت أُسائل حبيبتي "قمر" عن أخبار النقطة السوداء المُعششة كنسر شرير في أذني اليمنى. كانت الخزانة السرية القابعة خلفي مباشرة تزداد عفونتها المثيرة للقيء، فتجعل العروق تنتفض اشمئزازاً مع تزايد حمولتها من الجثث المتفسخة يوماً بعد يوم.
كانت حبيبتي قمر تزودني والأسى يمزقها بأنباء التقدم الحلزوني للنقطة السوداء على جسدي. كنت أنتظر بفارغ الصبر انتهاء عدوتي من التهامي، كما ينتظر مريض بالسرطان قدوم الموت.
لم أعد أرى شيئاً. حبيبتي قمر أخبرتني أن صورتي قد أمست معتمة كالظلام في قعر المحيطات. همست قمر في روحي بأن صاحبي المزيف قد دخل الديوان العربي وبصحبته صورته الفوتوغرافية الجديدة الناصعة الألوان المميزة بابتسامة مُداهنة ملائمة لظروف المرحلة. أحسستُ أنه تأملني باشمئزاز لبرهة، وشعرتُ ببصاقه على وجهي..أنزلني إلى الأرض، وانتزعني بغلظة من البرواز الذهبي، وأخذ في تمزيقي بلا رحمة. شعرتُ بقداحته تقترب من أشلائي وأنا ملقىً في منفضة السجائر. بعد ذلك لم أشعر بأي شيء.
(كاتب يمني)
منذ سبع سنوات اكتشفتُ وجودها.. نظرتُ في مرآة المغسلة، فلاحظتُ نقطة سوداء في تجويف أذني اليمنى بحجم رأس القلم. ظننتها شامة عادية ظهرت بمناسبة الحرب، فلما انتهت الحرب لاحظتُ أن النقطة السوداء تفاقمت وغدت بحجم محيط رأس القلم. لست قلقاً، ولا أرغب في رؤية الأطباء، ليكن ما يكون، سأعيش ما يكفيني من الوقت.
كنت أفكر في شراء مرآة جديدة، تهيأ لي أن مرآة المغسلة مشروخة. أتقدم بالشكر إلى محبوبتي قمر، لأنها جعلتني أوفر ثمن المرآة عندما صارحتني همساً بأن في وجهي شرخاً يمتد من صوان أذني اليمنى وحتى المكان الذي كان يشغله المرحوم أنفي. إنه أخدود بلا قعر، لا نهائي، ابتلع أنفي الطيب في غفلة مني وأنا نائم. شيء مرعب أن تستيقظ في الصباح ولا تجد أنفك الأليف في مكانه، الأسوأ أن تنتابك الهواجس بأن قتيلاً مجدوع الأنف قد سرقه منك.
بين زلزال وآخر كانت شظايا دقيقة الحجم جداً تهلُّ من وجهي ذي الاصفرار الخريفي. لا أحد يتفهم مقدار الذهول المروع الذي ينهش إنساناً ما بدأ يفقد ملامح وجهه تدريجياً.
آخر مرة تسكعتُ بشارع "حدة" كانت قبل سبع سنوات، أذكر أنه ترك في نفسي انطباعاً مشوشاً عن نوعية الجلد الذي يرتديه سكانه. ما زاد في اضطرابي أن الهواء كان مُشبعاً بالرغوة، والملايين من الفقاقيع الملونة تنهمر من النوافذ المفتوحة. كانت المحلات التجارية تلعب في الهزيع الأخير من الليل "القفز فوق الحبل" وتستخدم الخط الإسفلتي حبلاً. كانت المساكن ساحة شطرنجية عظيمة الأبعاد، والبيادق تتقدم لتأمين الملك، والخيول تناور بحسب احتياجات الوزير. كنت أتفرج على المباراة وأنا جالس في استديو تصوير منخفض عن سطح الأرض كجحر فأر.
أتى واحد من المشاركين في تلك اللعبة ليستضيفني في داره. أمّلتُ أن أشاهد وجه امرأة حسناء لكي تهبني فألاً حسناً قبيل ولوجي إلى بيت سيدي الذي أنا بصحبته الآن. لكن حاستي السادسة تهاوت فاقدة الوعي عندما رأيتُ سبع نساء لهن جمال صارخ، يجعل القلب يشبُ بين الضلوع لوعة، إلا أن نصفهن السفلي كان هيكلاً عظمياً، جعل قلبي يشب فعلاً من بين ضلوعي، ويفر إلى أحد الأزقة الخلفية، ولم أعرف بعد ذلك إلى أين ألقت به المقادير.
سرت قشعريرة في بدني حين فكرت بأن عرائس البحر المُغويات قد نقلن نشاطهن إلى البر، وأن اللذة المبذولة تأدلجت وتسيّست منذ أتقنَّ اللعب بذلاقة الأفيال، وصار اسمهن الحركي "عرائس القبر".
حاولتُ التملص من دعوة صاحبي، يا الله كان في تلك الليلة المعتمة أشبه بقفل اختفى مفتاحه في جوف كلب بوليسي اصطادته إحدى الأرامل لتفتش عنه في سريرها.
كان يسكن في فيلا فخمة بحديقة واسعة مُعشّبة. أدخلني إلى الديوان العربي، ثم غادر بعد تلقيه مكالمة هاتفية مُقتضبة وتركني وحيداً. كانت الجدران مُلبّسة بطبقة من الذهب، ومحفور عليها علامات وأرقام أوراق الشدة الاثنتين والخمسين. وخلب لبي منظر السقف المرصع بعدد لا يحصى من فصوص العقيق.
كان دفتر مذكراته ملقىً بإهمال عند أرجل "المداعة" (النارجيلة) المتأنقة ذات الفتحات السبع التي تبدو كلعبة دوّارة في مدينة الملاهي. فكرت بمقدار المتعة التي سأجنيها من قراءة صفحات صاحبي المُحدث النعمة حول مغامراته النسائية. بتلهف قلّبتُ صفحات الدفتر، ولفتت انتباهي صفحات مدعوكة، فحزرتُ أنها الأثيرة لديه، فصممتُ على قراءتها:
"حلّت نهايتي.. هذه السطور وصيتي لمن سيأتي من بعدي.. لقد استنفدت كل وسائل المقاومة ولم يبق لدي سوى الكتابة، ربما لأتسلى، ربما لأقلل رعبي من انطفاء حياتي.. تلك الحياة التي ليتها لم تكن! أليس لديك شيء ما تندم عليه مثلي؟ أليس يؤرقك سر صغير تتمنى لو تدفنه في ركن قصي من ذاكرتك؟ ذلك السر الذي في يوم من الأيام قلب حياتك رأساً على عقب وجعلك تُغيّر نظرتك للحياة برمتها؟ أنا أيضاً عندي سر صغير جداً يخصني وحدي، سر يبدد طمأنينة حياتي، وأشعر بالتوجس من البوح به.. إنني أكتم سري بداخلي وكأنه مارد بداخل قمقم رأسي، ولكنني إذا سمحت له بالخروج فلسوف يحتويني هو بداخله، وأصبح أنا الحبيس في قمقمه الذي كان له.. إن أثقل شيء حمله الإنسان هو السر، وأنا صرتُ طريح الفراش محموماً أعاني من انهيار صحتي. الأطباء لاحظوا الأعراض الغريبة التي تفشّت في جسدي، وبالأخص البقعة السوداء في الجزء الأيمن من وجهي، ونصحوني بالتخلص من سري بأسرع ما يمكن قلب أن يُسبب لي الوفاة. لمن أُفشي هذا السر وأضمن أنه لن ينتشر؟! إن هذا السر إذا ما ذاع و علم به (...) فإنهم لن يغمض لهم جفن حتى يقبضوا عليّ ويمزقوني إلى أشلاء.. قررت آخر الأمر أن أجرب علاجاً مشكوكاً في قدرته على إيقاف زحف البقعة السوداء على جسدي، وعزمتُ على كتابة سري في هذا الدفتر، رغم المخاطر من عثور أحدهم عليه. وما إن وضعتُ رأس القلم لأفضح سري على الورق، وبالكاد أثبتُّ نقطة سوداء تكاد لا ترى، حتى فرت النقطة السوداء إلى ركن غرفتي! تنهدتُ بارتياح وكأنما أخرجتُ جنياً من جسدي، ثم فكرتُ فيما لو أنني واصلتُ فضح سري على الورق فإنها – أي النقطة السوداء- ستتضاءل حتى تختفي تماماً بالتزامن مع انتهائي من الكتابة. لكنني ما إن كتبتُ كلمة "أعترف" حتى شاخ القلم في يدي وانحنى ظهره، ثم توكأ على سبابتي بعد فقدانه البصر. ظللتُ مشدوهاً دقائق عديدة أُراقبُ ما يحدث لقلمي من ظواهر مرعبة بذهول عميق. ثم ما لبث بعدها أن أطق حشرجاته الأخيرة مختنقاً بسري، وصار في يدي جثة هامدة. كانت يدي ترتعش، وعروقها ترسل نبضات غريبة، ووجهي محتقن ينز عرقاً، وأنا حينئذ أشعر بدوار رهيب جعلني أهذي، وأفقد القدرة على تمييز الجهات والاتجاهات، فلم أعد أُميّز يدي اليمني عن اليسرى، وكأن قوة غامضة حطمت بوصلتي الداخلية. كنت على وشك فقدان عقلي، ويا ليت ذاك حدث، لأنني قبل الجنون بلحظة حانت مني التفاتة، فضيّعتُ آخر أمل لي في النجاة.. رحتُ أبحلق في شيء انتصب أمامي، ليس له اسم، ولو كان له اسم لابتلعه، ولم يخطر ببال بشر، ولو خطر ببالهم لانتهى الحال بهم إلى العدم.. إنها النقطة السوداء وقد تضخمت وتوحشت حتى صارت في حجمي تماماً، وقد برزت منها سبعة أذرع مخيفة لا تكف عن الدوران البطيء. تبخر الدوار، وغاض الجنون تحت الجفون، وابتعدتُ مذعوراً حينما أبصرتُ البقعة السوداء تزحف نحوي للانقضاض عليّ. قذفتها بالكرسي ، فغاب الكرسي في المجهول. عندئذ شعرتُ بالرعب الشديد من تلك البقعة السوداء المسطحة كالمرآة.. فأين اختفى الكرسي وليس ثمة جوف لهذه المصيبة المريعة؟! رحتُ أقذفها بكل ما تقع عليه يدي من أثاث الغرفة، رميتها بأشياء حادة، وأشياء ثقيلة، غابت كلها في سواد سحيق، ولم أكن أسمع أي صوت ارتدادي لها. كانت تتحرك ببطء، فتمكنتُ من مراوغتها والإفلات منها. وبعد فشل كل محاولاتي لردعها انهارت شجاعتي، فقررت أن ألوذ بالفرار. أحسستُ وكأن خازوقاً بطول وادي حضرموت يخترق أحشائي عندما لم أجد باب الغرفة، هرولتُ إلى النافذة، هي الأخرى لم تكن موجودة. سالت الدموع من عيني وأيقنتُ أنني مسجون ولا مخرج لي مطلقاً. كرّت سبع ساعات وأنا أهربُ من ركن لآخر في مطاردة مضنية، أصابتني بالإنهاك البالغ، وأتلفت أعصابي، وأوشكتُ أن أصاب بالعمى من طول التحديق في تلك البقعة السوداء الشرهة. هاأنذا أستسلم وأتكوم في إحدى الزوايا، وأنا أبذل جهداً لأستنشق الهواء الذي يكاد ينفد، وقد صرتُ مبللاً بالعرق كغريق في البحر. حملتُ معي الدفتر والقلم، لأن آخر شيء قررتُ أن فعله هو تدوين تفاصيل اختفائي، أو موتي، هذه النهاية التي لم يسبقني إليها أحد.. رويداً رويداً أخذت البقعة السوداء تبتلعني من أصابع قدمي بهدوء صامت، اقشعرت منه روحي ووقفت له كل شعرة في جلدي.. راقبتُ بخضوع الاختفاء البطيء لجسدي الغالي في شيء مظلم يصعد من تحتي إلى أعلى.. أعلى. رفعتُ يديّ إلى فوق رأسي لتواصلا الكتابة والحياة.. ها هي ذي البقعة السوداء توالي غزوها وتلتهم عنقي.. عمّا قريب سأمسي محبوساً في القمقم المظلم الذي كان لسري، وسوف يحتويني بداخله، ويحرص جداً على أن يُبقيني سراً خاصاً به، لا يمكن أبداً أن يبوح به لأي كائن من كان.
لذلك أنا أُحذرك منه عندما تقابله، لكي لا تبتلى بذات المصير، وينجح في تحريض سرك فينقلب عليك ويتسيّدك! مُتيقن أنا من أنه سينتحل شخصيتي، وسيعاشر زوجتي بدلاً عني، وسيعبثُ بأموالي وذكرياتي مُتخذاً اسمي ولقبي، ولكنه بالطبع ليس أنا.. صدقني أنا لست أكذب عندما أُخبرك بأنني سأتحول إلى سر صغير مدفون تحت حراسة مشددة في ذاكرة الشخص الذي قد تراه يوماً ما يمشي أمامك، فما ذلك المخلوق المزيف إن هو إلا سري الصغير الذي حرصتُ دوماً على مواراته عن الأنظار، وحتى عن ذاكرتي. لم أعد أرى الآن.. أكتب هذه الكلمات معتمداً على إحساسي، لقد اكتسحت البقعة السوداء مُقلتيّ.. ربما أنت لا تصدق هذه الواقعة الحقيقية، مع أن الكثيرين مُصابون بهذا الالتباس.. ولعلك أحدهم وأنت لا تدري.. لقد اخترعنا آلات تميز بين العملة الصحيحة والعملة المزيفة، أفليس بالإمكان اختراع آلة تميز بين الإنسان الحقيقي والإنسان المزيف؟! أشعر بخدر خفيف.. تجذبني دوامة للدوران معها.. أشعر بأنني أتحول إلى ذبذبات.. تسطع فجأة أكوان لا نهائية.. وداعاً أيها ا..ل..ع..ا..".
عندما تركت دفتر مذكرات صاحبي يُفلتُ من بين يدي داهمتني أغرب الأحاسيس التي يمكن ورودها على البال.. أيمكن أن يكون صاحبي الذي جئت أنا وهو يداً بيد إلى هنا ما هو إلا شخصية مزيفة؟؟ يا خفي الألطاف، كيف أُنقذ صاحبي الحقيقي، وهل من سبيل للوصول إليه؟؟ يا رب القيامة، كيف سأتصرف مع ذلك الشخص المزيف عندما يعود وقد اكتشفتُ حقيقته؟! هل يُجدي إبلاغ السلطات عن حالة التباس هي برمتها غير مادية، وهو الأمر الذي تمقته الشرطة.. اصطكت ركبتاي رعباً عندما سمعتُ باب الفيلا الضخم يُفتح. قررتُ نسيان كل شيء والتصرف معه كأنني ما عرفتُ شيئا. أعدتُ دفتر المذكرات إلى موضعه، وتحريتُ أن أبدو منشغلاً، فلم أجد ما يبعدني عن الشبهات سوى تأمل سبع ساعات جدارية تشير إلى التوقيت المحلي في سبع عواصم أجنبية. كان أمراً عجيباً للغاية أن أجهل الوقت في بلادي وأنا أنظر إلى تلك الساعات التي لم تكن مهتمة بوقتنا. تنهدتُ مُفلتاً استغاثة كئيبة: "يا أول، لماذا قدّرت علينا أن نعيش في أزمنة الآخرين؟!".
انقبضت روحي وجف حلقي عندما رأيتُ صاحبي المزيف يدخل متمهلاً. نظر إليّ بتودد، ثم راح يتأمل صورة فوتوغرافية كبيرة لها برواز من الذهب الخالص. كانت الصورة حالكة السواد، ولست أدري كيف خطر ببالي فجأة أن تلك الصورة ما هي إلا صاحبي الحقيقي الذي التهمته البقعة السوداء! كدتُ أصرخ طالباً النجدة، حاولت، كان فمي مشدود الوثاق بخيوط ابتسامة متزلفة ملائمة لظروف المرحلة.
انتزع من الجدار الصورة المتفحمة، فرأيتُ خلفها خزانة سرية تنبعثُ منها رائحة جثث متفسخة. استخرج الصورة القديمة من البرواز وشققها نتفاً صغيرة، ثم أحرقها بعود ثقاب باستمتاع وتلذذ مُقزز في منفضة السجائر. امتدت يداه إليّ وأدخلني في البرواز، ثم علقني على الجدار ليستر خزانته السرية العفنة عن أنظار الناس. نعم لقد كنت أنا صورته الفوتوغرافية الجديدة آنذاك.
ذلك هو ما حدث قبل سبع سنوات.. أما الآن فأعتقد أن وجهي قد فقد كل ملامحه، وأن الأخدود الذي بدأ بالامتداد من صوان أذني اليمنى قد اتسع نزولاً إلى الحيز الفارغ الذي كان يشغله قلبي، ذاك الذي لا أعلم حتى اللحظة أين ألقت به المقادير.. آه يا قلبي لماذا تركتني؟؟
مع كل خسوف للقمر كنت أُسائل حبيبتي "قمر" عن أخبار النقطة السوداء المُعششة كنسر شرير في أذني اليمنى. كانت الخزانة السرية القابعة خلفي مباشرة تزداد عفونتها المثيرة للقيء، فتجعل العروق تنتفض اشمئزازاً مع تزايد حمولتها من الجثث المتفسخة يوماً بعد يوم.
كانت حبيبتي قمر تزودني والأسى يمزقها بأنباء التقدم الحلزوني للنقطة السوداء على جسدي. كنت أنتظر بفارغ الصبر انتهاء عدوتي من التهامي، كما ينتظر مريض بالسرطان قدوم الموت.
لم أعد أرى شيئاً. حبيبتي قمر أخبرتني أن صورتي قد أمست معتمة كالظلام في قعر المحيطات. همست قمر في روحي بأن صاحبي المزيف قد دخل الديوان العربي وبصحبته صورته الفوتوغرافية الجديدة الناصعة الألوان المميزة بابتسامة مُداهنة ملائمة لظروف المرحلة. أحسستُ أنه تأملني باشمئزاز لبرهة، وشعرتُ ببصاقه على وجهي..أنزلني إلى الأرض، وانتزعني بغلظة من البرواز الذهبي، وأخذ في تمزيقي بلا رحمة. شعرتُ بقداحته تقترب من أشلائي وأنا ملقىً في منفضة السجائر. بعد ذلك لم أشعر بأي شيء.
(كاتب يمني)