لا ينتبه بعضهم إلى أن قدسية فلسطين أصبحت مُركّبة في القرن العشرين، ولم تعد الأفكار والسرديات الدينية "الرسام" الوحيد الذي يضع بضربات ريشته اللمسات السحرية الغيبية على وجه المكان الفلسطيني.
يمكننا أن نستزيد فنقول إن الاحتلال طاول أجزاء مهمة من القدسية الدينية التقليدية، التي أحاطت بهذا الجزء المهم من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، الذي حاول شعراؤه باستماتة تحويله إلى فلاحة فاتنة، ولكن التناحر الجيوتاريخي القاسي، الذي يمسك بتلابيب المكان، جعل من فلسطين ثمرة مرة لعلاقة غير مريحة مع أوروبا، ثم في المائة عام الأخيرة مع الغرب عموماً.
هذه العلاقة المعقدة مع أوروبا، ثم مع الغرب، التي اكتسبت أفكاراً وتوجهات واضحة ومحددة في مراحل الصعود الرأسمالي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وتترجمت بالاستعمار، الذي هو جوهر رأسمالي أوروبي خالص يملك جذره الثقافي الخطير؛ لم تخلف وراءها الحالة الاحتلالية الاستيطانية في فلسطين فقط، بل تبدو آثارها "السلمية" واضحة في سبتة ومليلة، الواقعتين في الجغرافية المغربية وتخضعان للسيادة الإسبانية.
وفي السياق نفسه، لا يمكن اعتبار قضية لواء الاسكندرون مجرد التباس حدودي، كما أن المشكلة القبرصية التي تتركز في تقسيم الجزيرة، ليست سوى واحدة من أمواج هذه العلاقة المعقدة، التي كانت تتدفق عبر البحر الأبيض المتوسط، ما بين السواحل الأوروبية والأوروبية الشرقية وشرق المتوسط وشمال أفريقيا.
لقد كان التاريخ، في خضم الحروب المستمرة والتي تعجز إلى اليوم عن تبرير نفسها ثقافياً خارج منظومة الأديان، حقل صراع رئيسياً وهاماً في سياق قدسية فلسطين. ولكن هذا، تماماً كما المسوغات الدينية، كان صراعاً من الجانب الاحتلالي الأوروبي، ثم الصهيوني؛ بينما "السكان الأصليون" وامتدادهم القومي، لم يكن لديهم أطروحة تاريخية خاصة خارج الحق الموضوعي، بينما إرثهم الديني لا يسعفهم لأنه يتبنى سرديات دينية يهودية.
وبقدر ما في هذا الواقع من غرابة، إلا أنه لا ينافس في غرابته، التي لا يمكن فهمها دون أدوات التحليل الماركسية، غرابة أن تتأثر أوروبا في عز علمانيتها وانغماسها في "البراغماتية"الغربية، بالسرديات الدينية في فهم التاريخ وتفسير الحقوق.
طبعاً، أوروبا لا "تتأثر" عاطفياً، ولا تنساق معرفياً، ولكنها في النصف الأول من القرن العشرين كانت تضع "البراغماتية" في سياق مصالحها الاستعمارية، ومع انهيار سلطتها العالمية الكارثي بنتيجة الحرب الأوروبية العظمى الثانية، وانتقال مركز القيادة الغربي مع بروز الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة الأميركية، تحولت أوروبا إلى تفسير انتهازي تام لـ"البراغماتية". وهي اليوم مشتتة بين دول "الشمال الأوروبي" التي تصدّق النص فتؤمن بالحق الفلسطيني، ودول البر الأوروبي التي تساير تفكيراً بريطانياً حول المسألة.
ولكن أوروبا بعمومها، الغارقة في التعاطف مع السردية الدينية الاحتلالية، لا تصدق أن قدسية فلسطين أصبحت مركبة منذ أواسط القرن العشرين، وأن السرديات الدينية لم تعد "الرسام" الوحيد الذي يضع بضربات ريشته لمساته السحرية الفارقة على وجه المكان الفلسطيني.
وهذا بالذات جوهر النضال الفلسطيني المنظم، الذي تبلور مع منظمة التحرير الفلسطينية، وقادته حركة فتح المدججة بزعيم أضحى رمزاً للقضية والشعب وسيداً للكوفية الفلسطينية، وقت كان يعتني بأن يكون يسار فتح أثقل من يمينها. وانتهى غدراً، يوم اعتقد أن رحلته مع النظام الرسمي العربي ستوصله إلى دولة.
ويبدو من المنطقي تماماً، أن النضال الفلسطيني المنظم لم يقبل في بداياته صياغة النظام الرسمي العربي له، فتخلص من قيادة أحمد الشقيري مبكراً، ومال باتجاه اليسار، برغم اليمينية الرسمية لفتح. بل بقيادتها. ومن المفهوم تماماً أن منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت ترعى وتقود ما كان يسمى بـ "حركة التحرير العربية"، تحولت إلى التناغم مع النظام الرسمي العربي بتناسب مذهل مع مراحل انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى أن أصبحت جزءاً من هذا النظام الفاشل.
في خضم هذا التحول الذي آل إلى انهيار، ظهرت في فلسطين حركة تنادي بواجب الدفاع عن المقدسات. وهنا، ليس من سردية دينية مضادة. بل ايدولوجية دينية، لا تغير الجسد ولكنها تحاول لي عنقه. ولا يهم أن هذه الحركة أضحت معضلة سياسية، وعقدة ميدانية، ولكنها لم تستطع أن تخرج السردية الدينية من العهدة الاحتلالية، ولم تتغلب على مروياتها الأوروبية، بحكم الإيمانيات اليهودية في الإسلام.
وسيصبح واجب الدفاع عن المقدسات الفارق الرئيسي ببين حركة حماس والحركات الدينية المسلحة غير السياسية الناشطة بشدة هذه الأيام. فالحركة تؤمن بقدسية الوجود المادي لهذه المقدسات بأشد مما يؤمن عالم آثار، بينما تؤمن الحركات الدينية المسلحة غير السياسية بأن التعلق بالوجود المادي لأي شيء، حتى المساجد والمقدسات، هو وثنية جديدة وشرك بالله.
وبالمحصلة، علينا أن نفهم هذا الهوس الأوروبي بهذا الجزء الجنوبي من ساحل شرق المتوسط، وذلك الانغماس في وسطه (لبنان)، والاندفاعة الدموية في شماله (سورية)، ولماذا اليونانيون والقبارصة أمم أوروبية مهملة، وفي حكم العرب، تتقدم عليهم تركيا.
وعلينا أن نفهم أن القضية الفلسطينية معاصرة، وتبقى كذلك؛ لهذا لا يمكن أن تحل في سياق أفق يميني، ولا يمكن أن تحافظ على نفسها كقضية وجيهة سوى بالحفاظ على طابعها الثوري، فهي ليست قضية جغرافية مثل سبتة ومليلة، ولا مسألة حدودية مثل لواء الاسكندرون، بل قضية تتعلق بالأرض والإنسان والكيان والهوية. وهي آخر تعقيدات الاستعمار الأوروبي.
وعلينا أن نفهم كذلك، أن هذا يعني أن قضية فلسطين تتجه يساراً، لا تنقذها السرديات الدينية التي كانت واحدة من أدوات خلق مأساتها. ولا يجوز الرجوع بها إلى الوراء إلى ما قبل تحريرها من قبل حركة النضال الفلسطيني المنظم من هيمنة العائلات الإقطاعية، وتحويلها إلى قضية تحرر وطني ذات بعد اجتماعي، تتعلق بالمعدمين والمشرّدين والكادحين والمستغلين.
وهذا، في الحقيقة، هو الميلاد الفلسطيني الشرقي.