المونتاج السياسي للصراعات: استيهامات ليبرالية

12 مايو 2016
بول كوزنسكي / بولندا
+ الخط -

يزداد على الشاشة الصغيرة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، في الآونة الأخيرة، انتشار الفيديوهات الشبابية التي تُظهر نساءً ورجالاً من أديان وقوميات مختلفة؛ "يتحدون" مجتمعاتهم ويظهرون في الشارع معاً، او يتبادلون القُبلات أمام أعين المارة.

عادةً ما يكون أحدهم منتمياً إلى فئة مستضعفة، والآخر إلى فئة أقوى. تكون الرسالة من وراء هذه الفيديوهات في النهاية هي تقبّل الآخرين، تحت شعارات ترمي إلى التعايش والسلام بين الأفراد بمعزل ومنأى عن الوضع السياسي والصراعات التي نعيشها الآن.

تذكّرنا هذه الفيديوهات والمشاريع ببعض النشاطات "اليهودية-العربية" في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، والتي ترتكز إلى خطابٍ ليبرالي يضع الفرد في المركز، ويقدّس قيم الحرية الفردية والشخصية؛ بمعنى أن الفرد يوضع فوق جميع الاعتبارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بهدف منحه "حرية الاختيار".

يُضاف إلى ذلك محاولة خلق الفرد "العالمي" (الـ"يونفيرسال") الذي يتقبل الجميع ويعيش معهم بسلام؛ وكأن الأمور المعقدة، كالصراعات والحروب والقمع على أشكاله، يجب أن تُترك لـ "الكبار" وأصحاب القرار، ولنعِش نحن الأفراد بسلام مع بعضنا بعضاً.

تكمن خطورة هذه الفيديوهات، التي تُوجَّه عادةً إلى جمهور الشباب، بتجاهُل وتناسي البُنى الاجتماعية والسياسية القامعة له (أي الشباب) ولشعبه، ساعيةً إلى وضع الفرد فوق هذه الاعتبارات، وكأن نضاله نحو الحرية منفصل عن نضاله من أجل التحرّر الشعبي أو التخلّص من جميع أنواع القمع والاضطهاد.

يجري تناسي تأثُّر الفرد بهذه البنى التي هي جزء أساسي من كيانه وصيرورته الحياتية وخياراته. تكمن الخطورة أيضاً في استغلال الأقليات وأكثر الفئات اضطهاداً؛ كالنساء، أو المثليين والمثليّات، وتقديم المقولات بوصفها نوعاً من التفاخر بأن هذا الخطاب هو الخطاب الحقيقي للمضطهدين، وهو "الخطاب التنويري الذي سيحرّر الفرد".

في الواقع، لم يكن النضال نحو الحريات، خصوصاً نضال أكثر المجموعات المضطهدة، كالنساء والمثليين من الجنسين، منفصلاً عن نضالهم ضد كل أشكال القمع. من الواضح أن الإنسان ليس "عالمياً"، والنساء لسن متشابهات في كل زمان ومكان. فمثلًا، نضال المرأة الفلسطينية نحو التحرر من القيود الاجتماعية؛ هو نضال سياسي ضد المُستعمر قبل أي شيء.

لكن، ما تحاول هذه الفيديوهات إيصاله، هو أن التوجّهات الليبرالية التي تُقدِّمها، هي توجّهات تسعى إلى جوهر الحرية، مصوّرةً النضال السياسي الواعي ومواجهة القوى الاستعمارية والاحتلال على أنّها نضالات تقليدية؛ لا تحوّل الإنسان إلى ذلك الكائن "العالمي"؛ المتقوقع، فعليّاً، في حريته الشخصية فقط.

تنصب هذه الفيديوهات فخاخاً، يُمكن لوهلة أن تكون جذّابة؛ لأنها تحاول إظهار عنصرية المجتمعات وعدم قابليتها على تحمّل وجود شخصيات من فئات مختلفة تسير مع بعضها جنباً إلى جنب.

في هذا السياق، انتشر مؤخراً فيديو بعنوانJewish Muslim Marriage Experiment، يحاول أن يصوّر نفسه على أنّه عملٌ تقدميّ وثوري. إلا أن ما يغيب عن بال الكثيرين، أن هذه المشاريع، في الحقيقة، تحافظ على الوضع القائم وتكرّسه؛ فبدلًا من محاولة فهم علاقات القوى وتفكيك البنى القامعة، يجري التعالي على هذه النضالات الشعبية التي ستضع حدّاً للعنصرية على أنواعها.

طبعاً، لا نقلّل من أهمية هذه القيم، لكن المسألة تتعلّق بالسياقات التي تُطرح ضمنها؛ ما يؤدّي إلى تغيُّر مفاهيم هذه القيم، ونقلها إلى بيئةٍ تفتقر إلى التربة الصالحة لاستقبالها بالطريقة التي تُطرح فيها، لتنبتَ مشوهةً.

تفقد هذه القيم معناها حين يكون الإنسان مضطهداً، ويعاني من القمع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويعيش تحت رحمة قوى استبدادية. لكن تُصرّ هذه الرسائل الليبرالية على النظر باستعلاء إلى الإنسان المقموع، وإلى مجتمعه، مُحمّلةً بخطاب يقتضي أن هذا الإنسان "متخلّف" و"رجعي"، وهم يسعون إلى "تنويره".

(فلسطين)