المهدي المنجرة.. من التجاهل إلى التجاهل

22 يونيو 2014
+ الخط -

مررتُ على اسمه كمن يمرّ على ما يجهله، إلى أن انتهيت من قراءة ذلك العدد من مجلة "الآداب" من الغلاف إلى الغلاف. التفتُّ إليه بداعي الملل وعدم وجود ما يشفي جوعي الدائم للقراءة في قريتي النائية، فاكتشفتُ اسماً يضعنا أمام غابة معرفية مختلفة عن السائد، وعلمٍ لم أسمع به إلا آنذاك: علم المستقبليات! ما دفعني إلى قراءة الحوار أكثر من مرة ولا زلت أعود إليه، لندرة المواد الموجودة والمكتوبة عن الرجل.

هل قلت ندرة؟

نعم، بعد اكتشافي إياه وجدت أن العثور على كتب وأبحاث ودراسات عن هذا الرجل يشبه البحث عن كنز مدفون (اليوم ساهمت الإنترنت في فك الحجب عنه جزئياً)، الأمر الذي أطلق تساؤلاً مريراً لم يزل قائماً حتى اللحظة، تساؤلاً ولد من رحم جهلي السابق به، وعدم القدرة على قراءته معرفياً حتى بعد معرفتي به، تساؤلاً يسأل عن سر هذا التجاهل لمفكر ورجل علم متخصص في ميدان أكثر ما تكون ثقافتنا المعطوبة بحاجة إليه؟

ربما تكمن الإجابة في صفة "رجل العلم" الذي كانه، فثقافتنا ما زالت تُهيمن عليها أيدولوجيات غيبية، في حين أن الرجل حفر عميقاً ليهتك هذا المتن، محاولاً توليد ما يتضاد معه، عبر علم يتعاطى الرقم ومفرداته والمعرفة في الواقع، عارية كما هي، مبرّأة من أي توظيف أيديولوجي أو سلطوي أو حزبي أو إعلامي.

مشروع المنجرة مضاد لكل السلطات، من هنا هذا التجاهل المرير له، خاصة من قبل الإعلام الذي استقال من مهنة نقل الحقيقة والتنوير وتبنّى مهمة "صناعة العقول" (وفق لغة تشومسكي) وبرمجتها وفق ما تشاء هذه السلطات، التي لفظت المنجرة ومستقبلياته، حاصرةً مستقبل الأمم والشعوب بالأبراج وقراءة الحظ.

هكذا وصلنا إلى مستقبل تتسيده قوى الظلام من كل صوب، في الوقت الذي يرحل فيه رجل المعرفة الذي حذر مما يحصل، محاولاً بناء مستقبل مغاير، وسط صمت يفضحنا، ما يعني أننا لم نزل نسير في طريق معكوس لما رسمه. فمستقبلنا غداً لن يختلف عن الآن طالما لم نمتلك علمنا ومعرفتنا، وطالما لا زلنا نجهل الرجل الذي رحل وبيده مفاتيح مستقبل لا يأتي، مفضّلين اتّباع ديماغوجيين ومشعوذين.

المؤلم أن التجاهل لم يكن تجاهلاً سلطوياً وشعبياً فحسب، بل معرفياً وثقافياً أيضاً، إذ من النادر أن نجد مفكّراً أو مثقفاً تعاطى مع الرجل وعلومه أو حاول قراءته، أو استفاد من خبرته لنقل شعلته إلى ميادين اختصاصه التي تحفل بالأيديولوجيا بدلاً من العلم والمعرفة؛ وكأن بين جُلّ مفكري العرب والعلم قطيعة، جاعلين في العمق من المعرفة الفكرية على تضاد مع العلم، رغم أنهم لا يتوقفون عن التبجح به. فمعارفهم الفكرية تنقصها دقة العلم وقوة أرقامه، لذا هي أقرب للأيديولوجيا والسحر منها إلى المعرفة العلمية للواقع. أليس لهذا فشلت تجارب الوحدة العربية والاشتراكية والشيوعية والدولة الوطنية والقومية؟ أليس لأنها بُنيت على رغبات بدلاً من العلم الذي دعا المنجرة إلى توظيفه في الفكر؟

الطامة أيضاً، أن هذا الفكر الأيديولوجي بنى قاعدة شعبية عريضة، وهنا تلاقى المفكر والشارع في لفظ المنجرة وتجاهله مع السلطات كافة، فبقي الرجل يحفر في مستقبلياته وحيداً، آملاً أن يأتي مستقبل ينصفه.

رحلة من التجاهل إلى التجاهل: إنه فضيحتنا.


* شاعر سوري مُقيم في دمشق

المساهمون