المهاجر

28 مارس 2019
+ الخط -
ماذا تعرف عني..؟
أنا اسمي سامي، مايك، حسن أو علي .. أنا اسمي ليلى، فاطمة، زينب، ياسمين، أو مريم.. أنا جارك الذي يسكن في المنزل المجاور، أنا السائق الذي يقود السيارة التي تمشي في الخط الموازي لخطك، أنا والد الصبي الذي يلعب مع ولدك في فريق لعبة الهوكي..

أنا العامل الذي يصنع قهوتك، الميكانيكي الذي يصلح سيارتك، الممرض الذي يقيس ضغط دمك، أنا المهندس الذي يكتب برنامجاً لتستعمله شركتك، أنا عامل "الول مارت" الذي يعيد تصفيف البضائع الناقصة في الليل لتتمكن من القيام بعملية تسوق سلسة في النهار..

أنا السيدة التي تعمل في مخبز الحي لتصنع لك خبزاً طازجاً، أو السيدة التي تعمل في مذبح الدجاج أو مسلخ البقر، أنا غاسل الصحون الذي يعمل في المطعم الذي تقصده كل يوم، أقوم بغسل الصحون لتتمكن من إيجاد صحن نظيف في المرة القادمة حين تأتي لتأكل هنا.

أنا مالك محل "السندويش" الصغير الذي يذهب باكراً قبل أن تستيقظ ليحضر خضاراً طازجة لتأكل حين تأتي إلى محلي وتستمتع "بسندويشاتي" الطازجة..


هل تذكرك هذه القصص بشيء ما؟
هل كان والدك أو جدك الصيني، الإيطالي أو اليوناني، عاملاً مثلي حين قدم إلى هنا وقام ببناء القطار الذي حمل الركاب والبضائع، ووصل البلد من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.. ربما كان عاملاً في البلدية وقام بتعبيد الطريق أو بصب إسمنت الممشى الجانبي الذي تتنزه عليه كل يوم..

أنا واحد من أجدادك الذين قرأت عنهم ولم يحالفك الحظ لرؤيتهم، لأنك ولدت هنا ولم تر كيف عمل والدك، جدك، أو والده بكد وصعوبة لتبلغ ما أنت فيه الآن.

أنا الآن أعيش قصة مماثلة لهم، لكنني نسخة أحدث عن معاناتهم ومشاقهم، بل ربما أكثر حظاً منهم، فهم قد جعلوا القدوم إلى هنا أسهل لي وجعلوا هذا المكان أكثر قابلية للعيش لك بتضحياتهم وجهودهم، حتى تمنى من هم أمثالي أن يتخذوا هذا المكان وطناً.

ثق بي إذا أخبرتك أنني كنت سعيداً مثلك أنت، كان عندي عائلة ومنزل، لقد كنت واحداً ممن كان عنده شيء ليعيش لأجله وحلم يسعى إليه، لقد كنت طبيباً، محامياً، أو مهندساً، أو حتى جراح قلب، لكن مشاق الحياة هناك جعلتني أفضل أن أعمل في غسيل الصحون، قيادة سيارات الأجرة أو الشاحنات مقابل أن أحافظ على كرامتي وأكسب لقمتي باحترام.

لقد كنت أعيش عيشة هنية، وكان لي وضعي الاجتماعي، ومكان كنت اتخذه وطناً، وكان عندي حلم كنت أحاول أن أعيشه..

ثم جاء يوم.. عندما قرر أحد عديمي المسؤولية أن يحل مشاكله بتوريط البلد في الحرب وجاراه الطرف الآخر، وقبل أن نستيقظ فتحنا أعيننا على منظر الدمار المخيف، كانت حيواتنا تتشظى أمام أعيننا، وكل الأشياء الجميلة ببساطة تتلاشى.

حاولت أن أقاوم فكرة الرحيل، أن أتشبث بالأرض وأبقى، لكنني لم أكن قادراً على أن أدبر أموري، والوطن حيث تحس بالراحة وأنا افتقدت هذا الإحساس هناك، والوطن حيث تحس بالأمان، وذاك المكان لم يعد آمناً بالنسبة لي.. رحلت حين خسرت كل شيء، وكل ما تبقى كان ذكريات، عن أحلام لم تكتمل، عن أشخاص وبلد كانوا يحاولون أن يكونوا شيئاً ما، قبل أن يتكفل أحدهم بتحطيمهم.

قررت أن أهاجر إلى هنا لما سمعت عن عدل حكومتكم، وعن حقوقي المحفوظة هنا كلاجئ، وكيف أن الطريق مفتوح أمامي هنا لأكون ما أشاء، وكيف سيكون لأطفالي مستقبل زاهر هنا، حيث ننسى خساراتنا ونبني أحلاماً جديدة أو نعيد بناء الأحلام القديمة.

كنا نسمع أن هذا المكان وكأنه الجنة حيث يعامل الجميع بعدل أمام القانون بغض النظر عن لونهم أو مظهرهم، عرقهم أو جنسيتهم، دينهم، أو حتى فترة إقامتهم في هذا المكان.

جئنا إلى هنا لنجنب أولاداً مصيرنا، لنتخذ هذا المكان وطناً، فحيث تكون سعيدا هذا هو الوطن، وحيث تكون آمناً هذا هو الوطن، وحيث تخطط للمستقبل فهذا هو الوطن، لا يمكنك التخطيط لأحلام طويلة الأجل في مكان إقامة مؤقت.

أنا أعلم أن الأمر قد يبدو شاقاً بالنسبة لك، أن تتشارك الأشياء مع غريب، لأن الأنانية طبع إنساني، أنا أعرف أننا سيكولوجياً ننحو كبشر نحو ألا نحب أي واحد لا يشترك معنا في الأفكار والمعتقدات والمظاهر المشتركة، كما هو الحال بيني وبينك.

لكن تأكد أنني إنسان مثلك، وكما أنك تمتلك أحاسيسَ، أنا أمتلكها كذلك، وجل ما أريده هو أن أعيش حياة هانئة وأن أدع الباقين يعيشون بهناء مثلي، أن أدخل في دورة الإنتاج وأن أكون شخصاً منتجاً، وأن أشارك فيها، لا أن أستفيد منها فقط.

أريد من أطفالي أن يساهموا بأفضل من مساهمتي في بناء هذا المجتمع، وأنا أفعل ذلك، أقوم بالخروج عن الخط الذي رسمته هذه الحكومة حين سمحت لأشخاص مثلي بالقدوم وتغطية قطاعات لا تعمل فيها أنت وأمثالك، وبالنتيجة أطفالي سيكونون مثلك بعد جيل أو جيلين، وسيستمر سيل المهاجرين القادمين لتغطية الوظائف التي تدفع القليل كجمع الفواكه والزراعة أو التنظيف، لتستمر الأجيال التي ولدت هنا في التركيز على الصورة الكبيرة والنهوض بالبلد.

لو كان الخيار خياري لكنت بقيت حيث كنت، لكنه لم يكن خياري أن أحزم أمتعتي وأمشي، بل في كثير من الأحايين لم يسعفني الحظ حتى بأن أحزم أمتعتي لأنه لم يتبق شيء مما أملكه لأحزمه وآخذه معي، لقد هربت أنا ومن أحب، بل حتى في أحيان كثيرة خسرت من أحبهم هناك ولم يسعفني الحظ أن أستمتع بحياتي هنا معهم فيما لو قدموا هنا.

لقد عانيت الكثير لأكون حيث أنا الآن، ورضيت بالقليل اليوم لأؤمن لأطفالي غدا أفضل، أنا أقوم بوظائف وأخدم في مجالات لا تقوم بها أنت، لأحاول أن أُبقي وتيرة حياتك كما هي، وثق بي إن قلت لك إن حياتك بدوني لن تكون كما هي، لأن ما أفعله لك لا تستطيع أنت فعله لنفسك.

أنا أحمل الكثير عنك، وأنا بالنسبة لك كاليد بالنسبة للدماغ أو المعدة بالنسبة للقلب، كل يؤدي دوره في خدمة العملية المتكاملة، أنا أعرف أن طبيعتك البشرية تحثك ألا تثق بي كغريب، لكن أرجوك لا تعمم، أنا أخطط أن أبقى هنا، وحين أفعل لن أقوم برمي حجر في البئر التي أشرب منها، ولا حتى أن أقوم بشيء أحمق يعكر صفو حياتي.

أنا أعشق أسلوب الحياة هنا، وأود مشاركتك فيه إن رغبت، ولكن لا تتوقع مني أن أصبح مثلك بين يوم وليلة، فما تعيشه أنت اليوم هو تراكمات 400 سنة من النضال، قضاها أجدادك لتحصيل الحقوق التي تنعم بها الآن.

لقد جعلتني التجارب التي مررت بها أحياناً، أعاني من أنواع مختلفة من الفوبيا، ولكن مع الوقت سأصبح أفضل وأحس بالأمان وأتخلى عن مخاوفي وانقباضاتي. لقد حمى أجدادك هذا المكان ودافعوا عن مكتسباتهم بل حتى قد اضطروا أحياناً للذهاب إلى الحرب في سبيل ما اعتقدوا أنه الصواب.

لقد خرجت حديثاً من محرقتي فلا تكن عوناً للدهر والأيام والتجارب الصعبة، وتكونوا كلكم ضدي.. ساعدني لأرتقي إلى رقيك ولا تجعل نار كرهك تحولني إلى شخص جاحد وحاقد، من فضلك لا تحاربني، فأنا لست جرثومة في نظام جسمك، بل أنا جسم غريب يحاول أن يتأقلم ويجعل هذا المكان أفضل.

أنا لا أنوي إلا كل خير لهذا المكان، فدعني أتشارك وجبات طعامي الجميلة معك وأن أضيف غنى إلى مطبخك، ودعني أضيف قصصا جميلة إلى أدبك وتراثك، ولينعم أولادك وأولادي بقصصنا الجميلة، أريد أن أشاركك قصصي الحزينة، لأن في قصصي استعادة لما عاناه والدك وجدك قبل الوصول إلى هذا المكان.. أنا لست عدواً فلا تجعل معاملتك تجعلني واحدا!

أريد أن يلعب أطفالي مع أطفالك لعبة الهوكي في الطريق، وأن أستمتع بالحياة كما تستمتع بها أنت، وأن أخبر نفسي: ها أنا ذا قد تعلمت شيئاً جديداً اليوم، وأستطيع أن أقوم بالأمور بشكل أفضل من ذي قبل.

أنا لم أختر لون جلدي ولا أين ولدت، لكنني بالتأكيد أستطيع أن أختار كيف أتصرف، كيف أعبر عن نفسي وعن قناعاتي، وعن كيفية التعامل مع الناس، كيف أحترمهم ويحترمونني.. لا يمكنك أن تجعلني أفكر مثلك فنحن مختلفان، وصهر المهاجرين في المجتمع هو أمر خاطئ ففي اختلافنا غنى لكلينا..


يمكن لنا أن نثري بعضنا البعض، وأن نعمل كفريق مشترك، بإمكاني أن أكون مختلفاً وأن تكون كذلك، وأن تبقى أهدافنا مشتركة، لبناء مكان سعيد يشترك فيه الجميع، لا يسكنه الكره، لا يسكنه التمييز.. ويحذوه الأمل نحو غدا أفضل للجميع.

دلالات
7F7C2416-B720-4906-ACFE-73D4127D7B5F
حسن علي مرعي

درست الشريعة في "أزهر لبنان"، فرع البقاع، ثم درست الحقوق في الجامعة اللبنانية، وأتابع دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في معهد ماستشوسش التقني وجامعة وست فرجينيا..أهتم بالأدب، شعره ونثره بالإضافة إلى العلوم السياسية والتاريخية، ولا يقلل هذا من اهتماماتي بالتاريخ أو بالاقتصاد وسائر العلوم الإنسانية الأخرى.