المدى الأبيض على مد النظر

05 مارس 2019
+ الخط -
من قال إن الثلج يحاصرنا؟.. ومن قال إننا نشعر بالاكتئاب..
صديقي العزيز: عندما جئت إلى هذه البلاد تعلمت أمورا مهمة، منها: أن الشتاء هنا سبعة أشهر، وإذا أردت أن تعيش هنا فيجب أن تتعلم أن تتأقلم معه، وإلا ستصاب بالاكتئاب..



صحيح أن الثلج يصيب بالاكتئاب والإحباط أحيانا، فعندما أنظر من نافذتي إلى المدى الأبيض المحيط بنا، أحس أحياناً بأن قنبلة نووية قد أصابت المنطقة فقتلت كل ما هو حي، فلا تكاد تبصر أثرا لحياة، والأسوأ من ذلك حين أذهب إلى المنطقة الصناعية حيث يقوم كل من هم أمثالي بركن آلياتهم وإراحتها طول موسم الشتاء القاسي، الممتد من أول أكتوبر/ تشرين الأول وحتى آخر مارس/ آذار، وأحيانا يطول فيبدأ من سبتمبر/ أيلول ويستمر حتى إبريل/ نيسان.. هناك ترى انعدام الحياة فعلاً.

التأقلم مع الثلج هو أسلوب حياة، فحين تدرك أنك ستعيش مع هذا الواقع لفترة طويلة يجب عليك أن تجد البدائل، وفي بلاد تعتبر بلاد الثلج، لا تعدمك الخيارات.


حين قدمت إلى هذه البلاد أدركت أنه للنجاة يجب أن أتعلم الرياضات الشتوية، وإلا سأصاب بالاكتئاب إن حبست نفسي إلى لعب الورق ومشاهدة المسلسلات، كما يفعل البعض، فما الخطأ في تعلم رياضة التزلج، أو رياضة التزحلق على الجليد، أو حتى السباحة الداخلية.

الكثيرون من أصحابي يشترون سيارات رباعية الدفع (quads) ويحملونها إلى الجبال حيث يقومون بالقيادة بها في المناطق الوعرة، تماماً كما يفعل أهل الصحراء حين يقومون بالتجول في الصحراء.

وهناك آخرون يذهبون للصيد المائي، حيث تتجمد البحيرات، ويمكنك حينها أن تقود عربتك على الجليد، وتجلس فوق البحيرة، وتقيم خيمتك، وتشعل نارك، وتخيم ليومين أو ثلاثة حيث تقوم بنقر الجليد وإنزال صنارتك واصطياد السمك، أو حتى بالذهاب لصيد الغزلان والدببة والفهود في موسم الصيد الممتد بين شهري أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني.

أما إذا قررت أن تسترخي وتتمتع بمشاهدة البرد والثلج من نافذتك، فحينها يمكنك أن تبني لنفسك موقدا من الحطب لا من الغاز، وكما قالت العرب النار ديوان، وتلقم نارك حطبة وتنكش النار وتستمع بشرب الشاي وأكل الكعك الذي تصنعه زوجتك طازجا من الفرن وقراءة رواية طويلة أو كتاب عميق يستلزم جلسة هادئة كهذه، أو ربما قم أنت نفسك بكتابة روايتك أو كتابك العميق، ولك في الأدب الروسي القادم من بلاد البرد خير مثال.. فكل كتب تولستوي ودوستويفسكي وغيرهم من الأدباء الروس لا تخلو من الثلج والصقيع في ثناياها..

حتى على صعيد العمل، هل تظن أن الثلج يحاصرنا هنا؟ فكل من يعيش في هذا البلد يعلم أنه يحتاج لعجلات ثلج وعربة دفع رباعي للعيش هنا، وتقوم البلديات بواجبها في تنظيف الطرقات، ولا يكاد يمنعنا مانع من أن نخرج ونقود حتى في الظروف السيئة ونتابع أعمالنا..

قبل أيام، كنت أعمل في الخارج أنا وأصحابي في تغيير عجلات شاحنات كبيرة وكانت درجة الحرارة -26..



وباستثناء أصابعك وخدودك، أنت لا تكاد تحس بالبرد بعد خمس دقائق عمل، وعدا عن أن البرد يسبب لك مشكلة في التزحلق وصعوبة تفكيك الأجزاء، إلا أن الإصرار على إنجاز المهمة يجعلك تستعمل كل ما يلزم لإتمام المهمة.

وكل قساوة البرد لا تستطيع أن تحرمك من نشوة الانتصار عليه حين تكون قادماً من السباحة داخل مجمع وأنت تعلم أنك ذهبت للقيام بذلك وكانت -30 في الخارج، أو ذهبت مشياً وراء غزال وقمت بسحبه إلى شاحنتك على الثلج، أو كنت تعمل في الخارج وقمت بإنجاز الإصلاح اللازم تحت البرد رغم كل الظروف.. إنها لذة التحدي، إنها لذة الثلج، الذي يظل رغم قساوته أرحم بكثير من ظلم وقساوة العيش في بلادنا..

في رد على صديق لا يحب البرد!.

7F7C2416-B720-4906-ACFE-73D4127D7B5F
حسن علي مرعي

درست الشريعة في "أزهر لبنان"، فرع البقاع، ثم درست الحقوق في الجامعة اللبنانية، وأتابع دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في معهد ماستشوسش التقني وجامعة وست فرجينيا..أهتم بالأدب، شعره ونثره بالإضافة إلى العلوم السياسية والتاريخية، ولا يقلل هذا من اهتماماتي بالتاريخ أو بالاقتصاد وسائر العلوم الإنسانية الأخرى.