المهاجرون والضريبة القاسية للظلم

08 سبتمبر 2015
+ الخط -
يواصل المهاجرون السريون تدفقهم نحو أوروبا، بحثاً عن جنة يظنون أنها موجودة في دول الشمال. تتواصل هذه المغامرات الخطيرة، على الرغم من ضخامة الخسائر في الأرواح، وهو ما جعل محاولات التسلل إلى الحدود الإيطالية تراجيديا مأساوية، تتكرر، يومياً، لأول مرة في التاريخ بشكل مباشر. وعلى الرغم من أن الجميع يستنكرون تكرار مشاهد الموت الجماعي، وعلى الرغم من الإجراءات الأمنية وغيرها التي اتخذتها مختلف الحكومات، لتشديد الرقابة براً وبحراً، إلا أن ذلك كله لم يضع حداً لهذه الآلة الرهيبة. كيف حصل هذا؟ 
أولاً: لم تكن الدول المصدرة، حالياً، للمهاجرين تفعل ذلك من قبل. لكن، بعد أن خضعت للاستعمار، وحصلت على استقلالها، وجدت نفسها غير قادرة على تحقيق اكتفائها الذاتي، بسبب تعرض ثرواتها للابتزاز والنهب المنظم، وهو ما جعلها مختلة التوازن، ومشلولة القوى، ذات اقتصاد تابع وإرادة مشلولة.
ثانياً: تعاقبت على حكم دول الجنوب أنظمة مستبدة، كشفت التجارب أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي نفذتها زادت من إضعاف هذه البلدان، وعمّقت الفجوة بين فئاتها وطبقاتها، وضاعفت من حجم تبعيتها لأسواق الرأسمالية العالمية النهمة، ما أضعف من فرصة تحقيق تنمية عادلة في الداخل، ومستقلة عن الأقطاب الاقتصادية الكبرى. ولم تكن هذه النتيجة من باب المصادفة، حيث ساهمت مؤسسات التمويل الدولية، مثل البنك الدولي، في دفع دول الجنوب نحو هذا الطريق المسدود، بربط مساعداتها وقروضها باختيارات اقتصادية فاشلة، كان من نتائجها انهيار الزراعة في هذه الدول، وعدم تلاؤم التعليم مع احتياجات المؤسسات الاقتصادية، إلى جانب اتساع رقعة الفساد المحلي الذي كان من نتائج الاستبداد السياسي.
وقد أدى ذلك إلى سلسلة الثورات الشعبية التي بدأت في تونس، قبل أن تنتقل إلى مصر، ثم ليبيا وسورية واليمن.
ثالثاً: حدوث أزمة قيم حادة، أثرت بوضوح على سلم الأولويات لدى الأفراد والجماعات في أوساط مجتمعات الجنوب. لم يعد العمل والاجتهاد هما الوسيلة الأساسية للحصول على الثروة والمال وتحقيق الصعود الاجتماعي، ومما زاد في تعميق هذه الأزمة ارتفاع نسب البطالة في صفوف خريجي الجامعات. ومن هنا، تحول السعي إلى التسلل نحو جنوب أوروبا بمثابة البحث عن الجنة المفقودة، ولو كان ثمن ذلك المجازفة بأرواحهم عبر ركوب قوارب الموت.
حدثت ثورات، أو مشاريع ثورات، في المنطقة العربية. لكن، بدل أن يحدث ذلك أملاً جديداً لدى الشباب، يحصل العكس لدى كثيرين منهم. ما يجب تأكيده في هذا السياق: أولاً: لن تستطيع دول الجنوب أن تعالج، بمفردها، أزمة التدفق البشري نحو أوروبا، مهما اتخذت من إجراءات أمنية، ومهما كان حجم التمويلات التي تتلقاها من الحكومات الأوروبية، لتتصدى للمهاجرين نيابة عنها. دول الجنوب في حاجة إلى تنمية، والتنمية لا تتحقق إلا بشراكة فعلية بين هذه الدول والغرب، وفي مقدمة ذلك أوروبا. وأن تخضع هذه الشراكة لاختيارات تنموية عادلة وإنسانية.
ثانياً: على أوروبا التخلي عن أنانيتها. الفجوة بين شعوب الأرض تزداد اتساعاً. النظام الدولي الراهن يحمل في داخله بذور فنائه، وهو يتجه، بنسق أسرع، نحو الانفجار بسبب تعميق حجم الفوارق بين الشعوب من جهة والأفراد والفئات من جهة أخرى. أصبح النظام الدولي ينتج أزماتٍ وألغاماً خطيرة، أكثر مما ينتج حلولاً وفرصاً جديدة للعيش المشترك. وكل ما تفعله الإجراءات الأمنية التي تتخذها الحكومات الأوروبية محاولة تقليص عدد المهاجرين، لكن ذلك لم يستطع إيقاف الزحف البشري.
ليست الهجرة السرية معضلة إنسانية فقط، وإنما، أيضاً، إشكالية حقوقية. فأوروبا تتخبط في سياسة قائمة على التناقض بين الضغط من أجل إلغاء الإجراءات الحمائية للسماح لبضاعتها من اقتحام الأسواق الداخلية لبلدان الجنوب، في حين تعمل، في المقابل، من أجل منع الحق في تنقل الأشخاص.
تفاقم ظاهرة الهجرة يؤكد أن العالم، اليوم، أشبه بسفينة واحدة، إما أن ينجو جميعاً أو يغرق جميعاً.
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس