انتشرت مع بداية البث التلفزيوني الشبكات المشفرة لعرض الأعمال الدرامية والأفلام السينمائية بوقت مبكر، قبل وصول العمل الفني إلى شاشة التلفزيون المفتوحة، ووصولها إلى كافة شرائح الجمهور، من دون دفع مبلغ إضافي. فإذا كنت ترغب في مشاهدة المسلسل باكراً، ما عليك إلا الاشتراك الشهري.
أسلوب تسويقي اتخذته القنوات المدفوعة لاستقطاب الجمهور وحاولت نشره عبر أساليب دعائية وإعلانية جذابة. وعلى ذلك، روجت القنوات العربية الكبرى أنها ستتجه إلى البث المشفر، ولكنّ تأخر بعض بلدان المنطقة في تقبل ثقافة المشاهدة عند الطلب أخّر المشروع، حتى جاءت المنصات البديلة، وكسرت احتكار القنوات المشفرة للإنتاجات الدرامية والسينمائية.
وعلى ضوء ذلك، ساهم دخول "نتفليكس" إلى المنطقة العربية في صفع القنوات الكبرى، منبهاً إلى ضرورة التحول إلى نظام المشاهد المدفوع عبر المنصات الرقمية، فأفردت شبكة MBC ميزانية كبيرة لصالح تطبيق "شاهد" الذي بقي لسنوات مهملاً مجانياً للعروض الثانية لكل ما يقدم على الشبكة. ومطلع عام 2020 افتتحت الشبكة الرؤية الجديدة للتطبيق في مجازفة، هدفها نقل الجمهور من مشاهدة شاشة التلفزيون إلى شاشة الهاتف المحمول. المفاجأة لا تكمن في نقل الجمهور فقط وتعويده على مشاهدة المنصات الرقمية، كما تفعل قنوات "أبوظبي" و"دبي" في الإمارات العربية المتحدة، وشركة "سينرجي" في مصر عبر تطبيق "واتش إت"، بل تعدى ذلك إلى نمط جديد من الاحتكار، فبدل أن تحتكر القناة المشفرة المسلسل تحول ذلك إلى المنصة الرقمية تحت ما يسمى "المسلسل الأصلي"، وهذا يعني أن المشاهد لن يتمكن من متابعة هذا المسلسل أو ذلك النجم سوى عبر هذه المنصة أو تلك.
إعادة قولبة لسوق التوزيع الفني تزامنت مع أزمة كورونا، بحيث تراجعت نسب مشاهدة الأعمال الدرامية على شاشات التلفزيون في رمضان نظراً إلى غياب سوق الإعلانات، واستغنت قنوات كثيرة عن شراء إنتاجات درامية جديدة، واكتفت بإعادة بث الأرشيف من برامج ومسلسلات قديمة. وهنا جاء دور المنصات البديلة لاستقطاب الجمهور بعروض جديدة، وبأجر شهري ليس كبيراً نسبياً، يعدل قيمة الاشتراك بالكابل، ولا يتخطى قيمة الاشتراك بالشبكات المشفرة. وبناء على هذا، انتقلت العدوى إلى شركات الإنتاج الدرامي التي تحول منطق المنتج فيها من الحديث عن نيته بيع المسلسل الجديد لقناة تلفزيونية، إلى تسويقه المسلسل عبر منصة رقمية، وهذا ما بتر المسلسلات من قالبها التقليدي القائم على الثلاثين حلقة، واختصر الإنتاج إلى معدل يتراوح بين 8 و12 حلقة، تعرض على إحدى المنصات الرقمية كموسم أول، على أن تستكمل بمواسم ثانية إذا طلبت المنصة ذلك.
المطلب المشجع لصناع الدراما بالخروج من أسر الدراما الرمضانية يحفز الشباب من كتاب ومخرجين على العمل في سياق ما يمكن تسميته "الدراما البديلة"، لكنه يقضي في المقابل على ثقافة الشارع العربي بمشاهدة المسلسل الطويل، ما يرشح لاختفاء تدريجي للقالب التقليدي والتحول إلى النماذج العالمية من مسلسلات قصيرة، ومسلسلات طويلة، ومسلسلات سوب أوبرا تصوّر على عدة فصول متتالية.
وفي انتظار إثبات التحوّل في سياق الإنتاج نجاحه من عدمه، تحضر الدراما في الشارع العربي كمحرك أساسي للتفاعل، يقوده المموّلون لأغراض سياسية وتجارية تبتعد في كثير من المرات عن مشكلات الشارع العربي وأزماته اللامتناهية وتنميط الحياة كما تراها "نتفليكس"، أو كما تعمل "شاهد" على تصويرها.