الممثل المقاول.. وغيره

09 سبتمبر 2019
+ الخط -
لا يزال الممثل والمقاول المصري، محمد علي، يتصدّر قوائم الأكثر متابعةً على وسائل التواصل الاجتماعي في مصر. وبعد أن وصل عدد مشاهدات مقاطع الفيديو الخاصة به إلى نحو 20 مليون مشاهدة لكل منها، فإن دلالات التفاعل مع فيديوهاته أبعد وأعمق من اعتبارها مجرّد حملة "فيسبوكية" تحمل اتهاماتٍ ماليةً للسلطة المصرية. 
سر التفاعل الواسع مع محمد علي هو "الجديد" الذي جاء به إلى المشهد المصري الرتيب حد الجمود، ليس فقط في أشكال التأييد والموالاة ومضامينهما، ولكن أيضاً في أساليب المعارضة على خفوتها ومناط النقد على انحساره. ولذا كان انتقاد عبد الفتاح السيسي، صاحب أعلى منصب وأقوى مؤسسة في مصر، كافياً لتحريك المياه الراكدة وإثارة انتباه الجميع، فقد كانت آخر محاولة لانتقاده شخصياً قبل خمس سنوات، في آخر حلقات "البرنامج" للساخر باسم يوسف. وعلى الرغم من أن الحلقة لم تُبث، اضطر يوسف إلى التوقف نهائياً، وغادر مصر.
يتجاوز جديد محمد علي التجرؤ على توجيه النقد والاتهامات إلى أعلى المستويات، فقد تناولت فيديوهات محمد علي موضوعاتٍ ومشروعاتٍ بعينها، وتفاصيل محدّدة يصعب عادة معرفتها إلا في نطاق ضيق، لا يخرج عن دوائر عليا وأفراد أو كيانات أو شركات مرتبطة مباشرة بتلك الدوائر، ولها علاقات وثيقة ومصالح متشابكة معها، فكان إعلان تلك التفاصيل بالأرقام والأسماء والمواقع أشبه بفتح غطاء ذلك الصندوق الأسود الذي يعلم الجميع بوجوده، ولا أحد متأكد مما يجري داخله. وعلى الرغم من عدم التأكد من صحة اتهامات محمد علي، إلا أنها الرواية الوحيدة المطروحة على المصريين. وكونها صادرة من داخل "الصندوق الأسود"، فذلك يكفي لأن يتلقفها الشارع المصري من دون بحث أو تشكيك في صدقيّتها، خصوصاً في غياب رواية مناقضة.
ليس ذلك وحده سبباً كافياً لانتشار فيديوهات محمد علي، ورواج روايته لدى قطاعات واسعة. لكنه غلف معلوماته المتفرّدة وخصوصية موقعه شخصا كان داخل المطبخ (Insider Man) بأسلوب بسيط وتلقائي وشعبوي، جعله شديد القرب سريع النفاذية إلى المتلقي. وبمظهر بسيط يتشابه بشدة مع رجل الشارع المصري العادي جداً، وليس بالصورة النمطية لرجل الأعمال، أنيق الملبس منمق اللغة، المتعجرف غالبا. ومما أكد هذه الصورة الذهنية القريبة من المواطن العادي أن محمد علي لم يدّعِ المثالية، ولم يرفع شعارات سياسية، أو يزعم تبنيه قيماً ومبادئ معينة. بل أكد غير مرة أنه لا يفهم في السياسة، وغير معنيٍّ بها، وأن همه الدائم في حياته هو البزنس، بل إنه اعترف بأن سبب انشقاقه عدم حصوله على حقوق مالية عن أعماله مع دائرة السلطة والحكم. وربما كان هذا بذاته أحد أهم مقوّمات تفوقه على كثيرين من الساسة والإعلاميين المعارضين أصحاب الشعارات والمنخرطين في سياقات منظمة.
محمد علي شخص، وليس دولة أو مؤسسة أو جماعة. وسواء كان مدعوماً أو مدفوعاً بواسطة أيٍّ من هذه الكيانات، هو الذي في الواجهة. وغالباً يتعاطف الشعب مع الفرد أكثر من التنظيمات أو الكيانات، خصوصاً إذا كان أداء الفرد يشي بالصدق وعدم التكلف أو الاصطناع. وفي المقابل، لم تكن الأوساط المؤيدة للسلطة على مستوى الحدث، فلا هي تجاهلته تماماً، ولا هي استجابت له بما يستحق. وإنما واجهت جديد محمد علي بقديمها. بلاغات قضائية تتهمه بالخيانة، وتطالب بإدراجه على قائمة الإرهاب، وحملات إعلامية تطعن في شخصه، ولا تفند ما يطرحه بوثائق أو حقائق. وهذا أخطر ما في القصة، أن بضعة أفراد (insiders) مثل محمد علي، لا يملكون سوى معلومات ثمينة وأدوات تواصل بسيطة، بإمكانهم إرباك منظومةٍ مؤسّسيةٍ لها كل القوة والنفوذ، تعمل بعقلية تقليدية إلى حد الجمود.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.