المغرب العربي… الفرصة المهدورة

05 مارس 2018
الأزمة الليبية غيّرت جميع المعادلات (عبدالله دوما/فرانس برس)
+ الخط -
مع كل ذكرى لإعلان قيام اتحاد المغرب العربي، في شهر فبراير/شباط من كل عام، يتجدّد الحديث عن هذه المبادرة التي بقيت حبراً على ورق وشاهداً على فشل عربي آخر في توحيد الجهود، وإهداراً لفرصة تاريخية لخدمة الشعوب، بسبب ما أثبت التاريخ أنّها مناكفات أنظمة وصراع قيادات في هذه البلدان على حساب مواطنيها. بل تحوّلت إلى أخطر من ذلك حين وصل الأمر إلى تأليب الشعوب بعضها على بعض وغلق الحدود وإثارة النعرات المحلية بما يهدّد قروناً من الترابط الدموي واللغوي والديني، ومحاولة لكسر تاريخ مشترك بالقوة.

ويجمع كل الخبراء، المحليون والأجانب، على أن فشل اتحاد المغرب العربي هو أكبر فرصة ضُيّعت على شعوب المنطقة منذ عقود، لإنشاء قوة اقتصادية عملاقة، بحكم المعطيات الموضوعية المتفرقة في المنطقة. وبرغم ذلك، فلا آذان المسؤولين تصغي ولا الشعوب التي لا تملك إرادتها بين أيديها، تحرّكت. وهو ما قاد إلى المخاوف الكبيرة من قيام الثورات في المنطقة منذ سنوات، بل وأدى إلى العمل على ضربها، خوفاً من أن ينتقل القرار إلى شعوب متحررة تقرر مصيرها بنفسها.

وكان يمكن أن تمرّ هذه الذكرى، هذا العام، كغيرها، في صمت وعدم اكتراث، ولكن بعض الزيارات والتصريحات جاءت لتستفزّ هذه القضية من جديد وتعيد النقاش إلى السطح، وآخرها زيارة رئيس البرلمان المغربي إلى تونس منذ أيام. فقد أكد الحبيب المالكي، أن "غياب الحوار، والمشاكل الحالية المرتبطة بالقضية الوطنية المغربية الخاصة بوحدة ترابه… هي أبرز الإشكالات التي تعيق تقدّم تجسيد حلم اتحاد المغرب العربي".

وشدّد في تصريح لـ "العربي الجديد"، عقب لقائه نظيره التونسي محمد الناصر، على تمسّك المملكة المغربية الثابت بهذه المنظمة المغاربية باعتبارها "خياراً استراتيجياً ومطلباً شعبياً". ولفت المالكي إلى أنه تمّ التأكيد خلال لقائه بالناصر على أهمية العمل المشترك بين تونس والمغرب لتحقيق هذا الحلم المشترك في خلق قوة مغاربية قادرة على إنتاج المواقف وصنع القرارات مع مجمع الدول.

ولكن المراقبين يدركون أنّ هذا الموقف ليس إلا كلاماً جميلاً للتسويق الإعلامي، ومجرّد إعلان نوايا قد يكون صادقاً ولكنه لن يتجاوز حدود تلك اللحظة. فزيارة المالكي إلى تونس لم تأت في سياق مغاربي، وإنّما جاءت لكسر البرود بين البلدين وفتور العلاقات منذ مدة. ويذكر الجميع أن زيارة رئيس الحكومة التونسي يوسف الشاهد إلى المغرب العام الماضي، انتهت بما شابه الأزمة السياسية والديبلوماسية المحدودة التي عملت تونس والمغرب على وأدها وعدم إبرازها للعلن، إذ كان يُفترض أن يستقبل العاهل المغربي محمد السادس، الشاهد، بعد انتهاء أشغال اللجنة العليا المشتركة التونسية المغربية التي توّجت بالتوقيع على 9 اتفاقيات بين البلدين، ولكن ذلك لم يتم بسبب "وعكة صحّية مفاجئة للعاهل المغربي".

ولكن الحقيقة هي غير ذلك، فالشاهد رفض التوقيع على محضر الاتفاق بين البلدين المتضمّن لفقرة تنصّ على "اعتراف الدولة التونسية بالسيادة المغربية على الصّحراء الكبرى"، مركز الخلاف بين الجزائر والمغرب، وهو ما لم تستسغه القيادة المغربية التي عبّرت عن غضبها بتلك الطريقة.

وبرغم أن المغرب يدرك جيّداً أنّ تونس تحاول بكل جهدها أن تنأى بنفسها عن هذا الخلاف بين البلدين، فإنه حاول أن يعدّل في العلاقة العرجاء في المنطقة، حيث تمتّنت العلاقة بين تونس والجزائر بشكل غير مسبوق منذ 2014، تاريخ وصول الرئيس الباجي قائد السبسي إلى السلطة، لأسباب موضوعية بحتة، لعل أهمّها الهاجس الأمني بين البلدين، ثمّ الاقتصادي، إذ سارعت الجزائر إلى إنقاذ السياحة التونسية بقوة بعد هجومي سوسة ومتحف باردو عام 2015، ودفعت بالملايين من الجزائريين لزيارة تونس خلال السنوات الأخيرة.

وربما يفسّر هذا العامل علاقة البرود بين البلدين، برغم العلاقات القوية المتواصلة بينهما، إذ إنّ السبسي ومحمد السادس لم يلتقيا منذ انتخاب الأوّل رئيساً لتونس عام 2014. ورغم أنّ ولايته شارفت على الانقضاء (عام 2019 المقبل)، فلم يتم حتى تبادل الدعوات أو الإعلان عن نوايا لقاء بينه وبين محمد السادس الذي زار تونس آخر مرة في العام 2014، فترة ولاية الرئيس السابق المنصف المرزوقي.

وأكّد رئيسا البرلمانين، المالكي والناصر، في لقائهما الأخير "الطموح المشترك الذي يحدو البلدين في بناء اتحاد مغاربي قادر على المبادرة والاقتراح واقتلاع مكان، وسط صراع التكتلات والتحالفات". وأكّد الناصر، بحسب بيان رسمي صادر عن البرلمان التونسي، تمسّك بلاده الثابت بهذه المنظمة المغاربية، مشيراً إلى "أهمية مواصلة الجهود الرامية لتعزيز الروابط المغاربية عبر تنسيق المواقف والجهود في اتجاه تكريس تكتّل اقتصادي ودبلوماسي فاعل قادر على المساهمة في الارتقاء بالمنطقة المغاربية".

وهذا التصريح هو مبتغى الشعوب والخبراء في المنطقة، إذ يرى الجميع أنه يمكن القفز فوق الخلافات السياسية وتركيز العمل على الجوانب الاقتصادية.

ورأى الخبير الاقتصادي رضا شكندالي، في هذا الإطار، أنّ "تجربة الاتحاد المغاربي بقيت حبيسة مقاربة جعلتها لا تنجح كتجربة، وتطبّق على أرض الواقع"، موضحاً في حديث لـ "العربي الجديد" أنّ "الفكرة بنيت على أساس مقاربة الاندماج، مثل تجربة الاتحاد الأوروبي، في حين أنه لا يمكن الاقتياد بهذه التجربة، لأن اقتصادات وهيكلة البلدان المغاربية مختلفة ومتباعدة، وكذلك السياسات الاقتصادية مختلفة، ومنها مؤشرات موازنات الدول والعجز التجاري لبلدان الاتحاد المغاربي".


وبيّن شكندالي أن الاقتصاد في الجزائر مثلاً ريعي، يعتمد على البترول والنفط، بينما في المغرب وتونس متنوع أكثر، رغم اعتمادهما على الفسفاط والسياحة، وبالتالي فإن "التباعد شلّ تأسيس الاتحاد المغاربي لأنه لا يمكن أن يقوم على أساس فكرة الاندماج بل والتقارب". واعتبر أنّ "فكرة الاتحاد الأوروبي بنيت على أساس نِسب نمو معينة وعجز لا يتجاوز 3 في المائة، ونِسب تضخم محددة، في حين أنّ الاتحاد المغاربي لا يمكن أن يبنى على هذه المعاهدة، فسياسياً توجد اختلافات كبيرة بين الجزائر والمغرب حول الصحراء المغاربية، والسياسات الاقتصادية متباعدة بين ليبيا والجزائر وتونس".

وأوضح شكندالي أنّ بناء الاتحاد المغاربي "يجب أن يقوم على مقاربة أخرى تقوم على التكامل الاقتصادي وليس الاندماج، بمعنى أنّ بلدان المغرب العربي بإمكانها انتاج مواد موجودة في المغرب العربي كمواد أولية، فتونس مثلاً لديها الفسفاط والجزائر لديها النفط، وبالتالي هناك مواد يمكن تصنيعها اعتماداً على مواد أولية موجودة بين بلدين أو ثلاثة، عوض استيرادها من بلدان أجنبية"، لافتاً إلى أنّ "بعض البلدان الأوروبية التي دخلت الاتحاد الأوروبي، كان اقتصادها يعاني من 3 بالمائة كنسبة عجز، وسرعان ما تحوّلت إلى 10 و15 بالمائة نمو. وبالتالي فإن الحالة مختلفة تماماً ولذلك نقول إنه لا يمكن لبلدان المغرب العربي أن تبنى بالكيفية نفسها وإنما بالتكامل الاقتصادي".

من جهته، أكّد الخبير الاقتصادي مراد الحطاب، في تصريح لـ "العربي الجديد" أنّ الأكثر كلفة لشعوب المنطقة هو "اللامغرب"، بحسب ما وصفه، باعتبار أنّ هذا المشروع يواجه صعوبات وإشكاليات عدة، معتبراً أن "الكلفة باهظة جداً على بلد مثل تونس، إذ تخسر ما بين 3 و4 نقاط نمو، وعلى المستوى التجاري، هناك ما يقارب الـ 5 مليارات خسائر سنوياً، إلى جانب غياب الاستثمار عن المنطقة ككل". وأضاف أنّ التقارب حتى على المستوى التجاري يكاد يكون غير موجود أو ضعيفاً جداً، وكلفة ذلك مرتفعة، ومنها التحرر من الفقر والبطالة التي قد تنخفض بنسبة 5 إلى 6 بالمائة في المنطقة المغاربية.

وأوضح الحطاب أنّ "الوضع في ليبيا اليوم أثّر على كل محاولات الاندماج والفرضيات التي سبق ان اشتغل عليها الخبراء، فالأزمة الليبية غيّرت جميع المعادلات وجعلت هذا المشروع صعباً وأكثر تعقيداً"، معتبراً أنّ ليبيا "كانت تمتصّ 12 بالمائة من اليد العاملة التونسية النشيطة، إضافة إلى المبادلات الاقتصادية والمشاريع الكبرى التي كانت موجودة بين البلدين". وأضاف أنّ "اللامشروع" جيوسياسي، ومسار الأوضاع في ليبيا والمنطقة، "جعل الحديث عن الاتحاد في الوقت الراهن غير ممكن لا على المستوى القريب ولا المتوسط".

ولفت الحطاب إلى أنّ "ليبيا لديها ثقل كبير في المنطقة المغاربية وكان من الممكن أن تكون بوابة فعلية، ولكن يبدو أن الأزمة الحاصلة ساهمت في استئصالها من جسد المغرب العربي"، مبيّناً أنّ "هناك ما لا يقلّ عن 4 مليارات دولار خسائر معاملات رسمية بين تونس وليبيا، وهذه النسبة يصعب تداركها حتى لو تم استئناف المعاملات".

وأشار إلى أنّ "الشعوب المغاربية لا تجد نفسها في الفضاء الطبيعي لها وفي المنطقة، رغم بعض المحاولات للاندماج"، لافتاً إلى أنّ "الجزائر تحاول الآن أن تكون القاطرة لأي مشروع في المغرب العربي وهي تقريباً صامدة في وجه الهزات العديدة، ومنها تراجع مداخيل النفط". وبيّن أنّ "الدبلوماسية التونسية نشيطة وتحاول الاستفادة من التقارب مع الجزائر وتكثيف التعاون، ولكن هذا التعاون لا يزال أيضاً دون المأمول".

وتراجع التعاون بين تونس والمغرب خلال السنوات الأخيرة بشكل لافت، بل إنه تحوّل إلى تنافس بين البلدين. ويقول كثيرون سراً إن المغرب يستفيد من الأزمة الاقتصادية التونسية، إذ تحوّلت إليه كل الاستثمارات المتوقعة في المنطقة، ومن بينها السياحية. ولكن الحطاب نفى ذلك، واعتبر أنّ "هذا التنافس غير موجود لأن لكل فضاء خصوصياته، فكل بلد له أسواقه التقليدية ويمتاز بانفتاح كبير على أوروبا وأفريقيا، ولكن لكل منهما منهجيته وأسواقه ونسيجه الاقتصادي الخاص". ورأى أنّ المقارنة الاقتصادية غير ممكنة رغم الانتماء لنفس الفضاءات الأفريقية والمتوسطية.

وفي خضّم هذه العلاقات الثنائية غير المتوازنة، ورغم كل اليأس من إمكانية بثّ الروح في هذا الجسد المغاربي المريض، بدا الأمين العام لاتحاد المغرب العربي، الطيب البكوش، متفائلاً جداً بعد لقائه رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية، فائز السراج أخيراً، إذ أعرب عن تفاؤله بحل قريب للأزمة الليبية وعقد القمة المغاربية.

كذلك، أكّد البكوش، بعد لقاء جمعه بالسبسي، أنه نقل إلى الرئيس التونسي مخرجات لقائه بالسراج وسبل حلحلة الأزمة الليبية، والدعوة إلى عقد قمة مغاربية خلال الأشهر المقبلة، مضيفاً أنّ "ليبيا تتحمّل منذ سنوات مسؤولية رئاسة الاتحاد المغاربي، ولذلك فإنها مدعوة إلى عقد هذه القمة التي تجمّدت منذ سنوات عدة. وبيّن أنّ القمة السادسة عقدت في العام 1994، ولكن تمّ إجهاض عقد القمة السابعة في مناسبات عدة.

وقال البكوش إن "الأوان قد آن لكي تلتئم القمة المغاربية وتعطي دفعاً جديداً لدول الاتحاد المغاربي"، معتبراً أنّ "المزيد من التعطيل والتأجيل في عقد القمة المغاربية سيخلّف خسائر فادحة لدول الاتحاد المغاربي". وأوضح أنّ السراج وافق على الإسراع في عقد القمة السابعة لاتحاد دول المغرب العربي، مؤكداّ أن "هناك مساعي حثيثة لتستجيب جميع الدول المغاربية وتساهم في وضع تاريخ واضح لعقد هذه القمة، والأمانة العامة لم تتوقّف عن العمل والقيام بالدراسات والمقترحات التي من شأنها خدمة التكامل المنشود بين الدول المغاربية الأعضاء".

إلا أن الدبلوماسي السابق، عبد الله العبيدي، كان له رأي آخر. ورأى في حديث لـ "العربي الجديد"، أنّ "هناك إشكالات عدة تعيق عقد القمة السابعة، فالأوضاع في ليبيا غير مستقرة والعلاقة بين دول الجوار وخصوصاً بين الجزائر والمغرب، تشهد فتوراً منذ سنوات، وبالتالي فإنه حتى لو عقدت القمة المغاربية فإنها ستكون شكلية".

وأضاف العبيدي أنّ "التعاون البيني بين دول اتحاد المغرب العربي ضعيف جداً ودون المأمول منذ سنوات، رغم أنّ القليل من التقارب والتعاون يعني نجاحات اقتصادية أكبر، وفرصاً أكبر لدفع النمو"، مشيراً إلى أنّ "الإشكال يكمن في سياسات الحكومات المغاربية، والتي للأسف، لا تغلّب مصلحة شعوبها في الاستفادة من التعاون، الذي يمكن أن يثمر لو وحدت جهودها وكثّفت أواصر هذا التعاون بينها".