المعارضة السورية ترسم معالم "ما بعد حلب" عسكرياً وسياسياً

25 ديسمبر 2016
"وسنظل نهتف الشعب يريد إسقاط النظام" (جورج أورفليان/فرانس برس)
+ الخط -
تستعد المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري لمواجهة المرحلة الأصعب التي صار يرمز إليها بمرحلة "ما بعد حلب"، بعد خروجها من ثاني أكبر المدن السورية، في ظل مؤشرات على نية النظام وحلفائه الانقضاض على محافظة إدلب، أهم معاقل المعارضة لإخضاعها، وفرض تسوية تُبقي النظام وتنهي مفاعيل الثورة بوصفة جديدة باتت تسمى "مسار موسكو". أما عناوينها فتتجلى في تهميش المعارضة السورية ممثلة بالهيئة العليا للمفاوضات عن أي جلسات مفاوضات سياسية، وإنهاء دور الأمم المتحدة والدول العربية الصديقة للمعارضة، وكذلك الدول الغربية التي تسمي نفسها "أصدقاء الشعب السوري" عن هذا المسار. والنتيجة المرجوة تتمثل في استفراد موسكو برسم هوية من هو المعارض ومن هو "الإرهابي"، في جلسات ينتظر أن تكون العاصمة الكازاخستانية، أستانة، مقراً لها بدءاً من منتصف الشهر المقبل.

وضعٌ صعبٌ فَرَضَ على المعارضة مباشرة القيام بـ"مراجعات" سياسية وعسكرية لمواجهة التحديات الكبرى التي تنتظرها في العام المقبل. وتجهد المعارضة لإفشال العديد من السيناريوهات التي يحاول الروس والإيرانيون فرضها على السوريين، في مسعى لتعزيز وتثبيت مكاسب استراتيجية حققوها من وراء دعم لا محدود لنظام بشار الأسد.

وتحاول موسكو قطع الطريق أمام الهيئة العليا للمفاوضات التي باتت العنوان الأهم للمعارضة. وهذه "الهيئة" ترفض بالمطلق المشروع الروسي القائم على بقاء الأسد، من خلال المضي في خطوات عقد مباحثات بين النظام و"معارضات" صُنعت في موسكو، أو طهران، ولدى الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، في أستانة. والهدف الروسي يتمثل في بلورة حل يُبقي الأسد في السلطة، في تحايل مكشوف على إرادة المجتمع الدولي التي تجلت في قرارات صدرت عن مجلس الأمن الدولي، آخرها القرار 2254، ومحاولة لفرض "إرادة محتل" على السوريين.

وتعمل الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري، أحد العناوين السياسية للثورة السورية، على إعداد تصور لخطة استراتيجية لعام 2017، ستُعرض على الهيئة العامة للائتلاف للحصول على موافقتها عليها. وأشار رئيس الدائرة الإعلامية في "الائتلاف"، أحمد رمضان، إلى أن التطورات الراهنة في سورية، والتي تلت ما سماه بـ"غزو روسيا" لسورية في سبتمبر/أيلول 2015، إضافة إلى "تزايد التدخل الإيراني المباشر عبر مليشيات طائفية، وما فرضه ذلك من تغيرات في الواقعين السياسي والعسكري"، أوجب على الائتلاف، كـ"مظلة شرعية سياسية"، التحرك بالتعاون مع مختلف المكونات والفصائل للعمل "على وضع استراتيجية عمل جديدة للثورة السورية، تعمل على تقوية البنيان السياسي وتنسيق الخطاب الإعلامي وتوحيد الجسم العسكري ضمن جيش وطني واحد"، وفق رمضان. وأوضح في حديث مع "العربي الجديد" أن الاستراتيجية الجديدة "تركز على إعادة النظر في الأهداف العامة بما يساعد على تعميق البعد الوطني، والعمل على إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة للسوريين من خلال عقد وطني".


وتابع رمضان بالقول إنه "وفي هذا الإطار، يتم العمل على تفعيل آليات عمل الائتلاف ضمن دوائر متخصصة، ووضع برامج الاستجابة للأزمات بفاعلية، واستكمال عملية انتقال الائتلاف ومؤسساته إلى الداخل السياسي، ومراجعة التحالفات الدولية وتأثيراتها، والتركيز على حماية المدنيين، وإدارة المنطقة الآمنة، واعتماد مبدأ المدن المفتوحة، ونقل مراكز القوى العسكرية إلى الجبهات، ورفض المصالحات التي يسعى الاحتلالان الإيراني والروسي لفرضها". وأضاف أنه سيتم العمل دولياً على تفعيل مشروع "الاتحاد من أجل السلام" في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي يشكل تحركاً موازياً للعمل في إطار مجلس الأمن.

وأشار رمضان إلى أن الاستراتيجية الجديدة تلحظ العمل المدني. وقال: "نعمل على تمكين الحكم المحلي من خلال الحكومة المؤقتة، والمجالس المحلية، وإعداد المخططات الخاصة بإعادة الإعمار، والعمل على تعزيز فرص التنمية، وإيجاد فرص عمل واقتصاد قادر على تحقيق موارد ذاتية في المناطق المحررة".

وحول الجانب العسكري في استراتيجية قوى الثورة والمعارضة المقبلة، أكد رمضان أنها تتضمن "تأسيس جيش وطني، ومقاومة شعبية بقيادة موحدة، والالتزام بالتصدي للاحتلال الأجنبي، ومحاربة الإرهاب بكافة مكوناته، واحترام القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وأن تستعيد الثورة رسالتها السامية في حماية الحريات وصيانة كرامة الإنسان السوري، وبناء سورية الموحدة بنظامها المدني الديمقراطي، على قاعدة تداول السلطة"، وفق رمضان.

بموازاة ذلك، تحاول المعارضة السورية المسلحة استيعاب درس حلب "القاسي". وبدأت ترسم خطة لمواجهة تداعيات ما جرى في كبرى مدن الشمال السوري، في مسعى منها لتجنّب خسارة أخرى في ريف حلب الغربي، ومحافظة إدلب التي باتت أهم وأكبر معاقلها. وشرعت في خطوات من شأنها توحيد الجهود العسكرية في جسم واحد تذوب فيه كل الفصائل، والتجمعات، و(الجيوش) التي تعددت راياتها ومساعيها، مما أدى إلى تعثر الإمكانات وتشرذم الصفوف، وهو ما استفاد منه الروس والإيرانيون، لا سيما في حلب.

وقد وجدت الفصائل العسكرية المعارضة نفسها في عين عاصفة غضب شعبي أثناء تهجير عشرات آلاف المدنيين من مدينة حلب. وخرجت تظاهرات حاشدة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام تطالب الفصائل بالاتحاد ومواجهة المليشيات الطائفية التي لا تخفي نيتها في إخضاع سورية كلها للإرادة الإيرانية. وكان مشهد تجوّل قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في حلب صادماً للسوريين، وهو ما دفع فعاليات ثورية مدنية وعسكرية للدعوة إلى وحدة الفصائل، وإلغاء كل الرايات باستثناء راية الثورة السورية.

وأكدت مصادر في المعارضة السورية أن جهوداً تبذل على هذا الصعيد، لكن ملامح الكيان العسكري الجامع "لم ترسم بعد" بسبب وجود تباينات في الرؤى، لا سيما لجهة وجود جبهة "فتح الشام" (النصرة سابقاً) في الكيان الجديد من عدمه. وكشفت مصادر أن هناك تيارين حيال توحيد فصائل المعارضة العسكرية: الأول يرفض إدخال جبهة "فتح الشام" في التشكيل الجديد قبل أن تعلن حل نفسها، مستنداً إلى رفض دولي للجبهة، ما قد يؤدي إلى رفض التشكيل من قبل المجتمع الدولي وحرمانه من الدعم السياسي والعسكري؛ والتيار الثاني يرفض أي وجود لجبهة "فتح الشام" حتى ولو حلت نفسها، ويعمل على تأسيس تشكيل بعيد عنها، قوامه الفصائل التي ترفع راية الثورة السورية، وليس لها خلفيات إسلامية واضحة.

وأشارت المصادر إلى أن السلطات التركية ليست بعيدة عن مشروع توحيد الفصائل العسكرية المعارضة "ولكنها ليست بالواجهة"، ذاكرةً أن حركة أحرار الشام وفيلق الشام، وكلاهما قريب من تركيا، يدفعان في اتجاه اندماج الفصائل في كيان واحد، وقيادة واحدة تقع على كاهلها مسؤولية المواجهة في المرحلة المقبلة.

من جهته، أكد الناطق العسكري باسم حركة أحرار الشام، أبو يوسف المهاجر، أكبر فصائل المعارضة السورية، وجود مساعٍ "لجمع الجميع"، رافضاً الخوض في التفاصيل، ونافياً في حديث مع "العربي الجديد" الأنباء عن نيّة الحركة الاندماج مع جبهة "فتح الشام"، وحركة نور الدين الزنكي. وأوضح أن "الاندماج سيكون أوسع". وتشكّل جبهة "فتح الشام" عقبة في طريق توحيد فصائل الثورة العسكرية في "جيش وطني" تحدث عنه رئيس الائتلاف الوطني السوري، أنس العبدة، أخيراً، من أجل حماية الثورة، والوقوف أمام محاولات وأدها. وتصنّف الجبهة ضمن ما تُوصف بـ "التنظيمات الإرهابية". وتُتهم من قطاع واسع من السوريين بكونها حرفت الثورة عن مسارها، وأنها لم تكسب ثقة الشارع الثوري السوري بسبب تشددها وسعيها لتحقيق مشروع لا يوافق عليه معظم السوريين.

وسعت روسيا وإيران لتجميع المعارضة السورية كلها في محافظة إدلب شمال غربي البلاد، للانقضاض عليها دفعة واحدة، وبالتالي فرض رؤيتهما للحل النهائي في البلاد. وهو ما تحاول تركيا تجنبه من خلال دفع الفصائل إلى الاتحاد لإفشال هذا السيناريو، واستعادة زمام المبادرة العسكرية من جديد في حال عدم التوصل لتسوية تلبي مطلب السوريين بالتخلص من الأسد وأركان حكمه.

وأكد عضو المكتب السياسي في حركة نور الدين الزنكي، بسام حجي مصطفى، أن محاولات تجري حالياً لـ"تحقيق ما يطمح إليه الشارع السوري، دفاعاً عن المناطق المحررة، وأهاليها". لكنه أضاف في حديث مع "العربي الجديد" أن "أسباب الفرقة والضغوط الخارجية لا تزال هي الأقوى ولم تفلح المحاولات حتى الآن". وأشار إلى أن جميع فصائل الثورة السورية تتحاور حول الوحدة، مضيفاً: "لكن البعض خرج ليتنصل، بحجة علمه ببعض التفاصيل، وعدم علمه بغيرها". وأكد أن الفكرة تقوم على "تذويب وصهر الجميع في إطار عسكري موحد ضد النظام لإسقاطه، وتحرير الأراضي التي احتلها الروس والإيرانيون". وأشار إلى "أن البعض لا يزال يفكر بالشروط الدولية أكثر من تفكيره بتحرير سورية". وأكد أن لدى حركة نور الدين الزنكي أولوية "نضعها على طاولة أي توحيد، وأي تشكيل عسكري جديد، وهي مصلحة الشعب السوري، وشعارات الثورة وعلمها". وقال "لسنا (تنظيم) القاعدة، ولا رديفاً لها كما يحاول من تنصل أن يوحي بذلك، بل نحن أحرار سوريون يدركون أن العالم تخلى عن مساعدة هذا الشعب، ولا يزال مصراً على تفريقنا". وتابع أن "وهم القاعدة وحجتها لن يمنعنا من السعي لتوحيد السوريين تحت علم الثورة وأهدافها وأن لا طريق آخر لتقليل أثار التطرف إلا بتوحيد السوريين جميعاً تحت أهداف الثورة السورية"، بحسب قوله.

في مقابل هذه الطروحات "الوحدوية"، يرى كثيرون، داخل الائتلاف وخارجه، وداخل الفصائل المسلحة وخارجها، أنه لا بد من التفكير بجدوى استراتيجية "الخروج من المدن" لتفادي تكرار سيناريو حلب بتدميرها وتهجير مدنييها، من خلال التمركز في الأرياف والبوادي واعتماد خيار حرب العصابات. ويبرر أصحاب هذا الرأي فكرتهم بالقول إنه في الظروف الحالية للحرب السورية، وبعدما تخلت أطراف دولية كبرى عن دعم الفصائل المسلحة، صارت موازين القوى مختلة بشكل كبير لمصلحة معسكر النظام والقوى العالمية التي تدعمه على الأرض وفي الجو والبحر.

من هنا، يرى ممثلو هذا الطرح أن قدرة إدلب ودوما، وربما في مرحلة مقبلة درعا، وباقي المدن المحررة، على الصمود، ستكون متواضعة، لذلك ربما من الأجدى اعتماد حرب العصابات، والكر والفر بدلاً من التمركز كـ"جيش" في مدن مراكزها واضحة ومعروفة، ومقراتها علنية، مما يسهل أمر القضاء عليها بالقوة التي يمتلكها معسكر النظام، وبالقدر الحالي من الإهمال الذي تواجهه المعارضة السورية المسلحة من العالم بأسره.