أهمية المسيحيين في فلسطين أنّهم من الأرض التي ولد فيها المسيح وانطلقت منها الرسالة المسيحية حول العالم. لكنّ تمسك المسيحيين الفلسطينيين بأرضهم كان في مواجهة أزمات كبرى ومؤامرات صهيونية
فلسطين هي مهد الديانة المسيحية، ففيها نشأ السيد المسيح وأبلغ رسالته حاملاً صليبه على درب الجلجلة والآلام حتى دُقت المسامير في يديه ورجليه وطعن وهو على أعواد الصليب. والفلسطينيون المسيحيون هم تلك الخميرة الباقية في دياره بدءاً من مذود الولادة وحتى الرمق الأخير، وهم ينقسمون إلى أربع طوائف أساسية: الكنائس الأرثوذكسية الخلقيدونية، الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية، الكنائس الرومانية الكاثوليكية (اللاتينية والشرقية)، والكنائس البروتستانتية.
تعايش تاريخي
يتركز المسيحيون في فلسطين التاريخية، ولا سيما في منطقة الجليل، في مدينتي الناصرة وحيفا وفي عدد آخر من البلدات والقرى، حيث يعيشون مع غيرهم من المسلمين. ومع أنّ وجودهم بات نادراً في باقي المدن الفلسطينية التي وقعت تحت الاحتلال الصهيوني عام 1948، ما زالت هناك كنائس مسيحية في كلّ من يافا والرملة تدلّ على الحضور التاريخي للمسيحيين في تلك المناطق.
أما وجودهم في المناطق التي احتلتها إسرائيل في عام 1967 أي الضفة الغربية، فإنّهم يعيشون هناك في مدن القدس الشرقية وبيت لحم ورام الله حيث توجد الغالبية العظمى منهم، بالإضافة إلى بيرزيت والطيبة وعدد من البلدات والقرى الأخرى مثل الزبابدة في محافظة جنين، وعابود وعين عريك وجفنا في محافظة رام الله والبيرة، وفي رفيديا في نابلس.
أهمية الوجود المسيحي في فلسطين أنّه الامتداد التاريخي للمسيحية إذ انطلقت منها ثم انتشرت لتشكل أكبر ديانة في عالم اليوم. وقد رعى العرب المسلمون الوجود المسيحي في الأماكن المقدسة هذه، وكرست العهدة العمرية التي أعطاها الخليفة عمر بن الخطاب للبطريرك صفرونيوس عند فتح القدس عام 638 ميلادية حقوق المسيحيين وأماكن عبادتهم، وما زالت أوضح مثال لاعتراف الإسلام بالمسيحية والأماكن المسيحية المقدسة. ولعلّه ليس من قبيل الصدف أن يغادر الخليفة الثاني المدينة المنورة ويأتي إلى بلاد الشام مقدماً وعده وعهده لبطريركها وقساوستها بالحفاظ على حرياتهم الدينية والشخصية وكنائسهم وممتلكاتهم. لكنّ المسلمين الذين سكنوا فلسطين على تتالي الحقب لم يكونوا بعيدين عن هذه الروحية إزاء مواطنيهم المسيحيين، فتشكلت المدن والقرى من كليهما، وتشاركا آمالهم وآلامهم معاً على قدر المساواة. بالتأكيد، مرت على الوجود المسيحي في فلسطين حقب كتلك التي يعيشونها اليوم، لكنّ عمق جذورهم كان باستمرار يعيد استنباتهم في تلك الأرض. ولا شك في أنّ المجتمع الفلسطيني بكليته كمجتمع عربي واحد يواجه الآن خطراً وجودياً يدفعه نحو التماسك في وجه الاحتلال وسياساته التمييزية بين اليهود وغيرهم.
إنّ تقديمنا للوضع المسيحي في فلسطين مردّه الأساس أنّ الخطر التكفيري منشأه وأصله في المنطقة هو المشروع الصهيوني الذي تم زرعه في أرض فلسطين التاريخية كوطن قومي لليهود، وهو ما قاد إلى هذا المأزق الوجودي الذي يعانيه العالم العربي بدءاً بالمصير الذي تعرضت له الحركة القومية والديموقراطية العربية بفعل الحروب المتلاحقة التي شنتها عليها إسرائيل بدعم من دول الاستعمار الغربي (العدوان الثلاثي بالشراكة مع فرنسا وبريطانيا، وحرب عام 1967 وغزو لبنان بالرعاية والتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية) وحلقاتها التالية، ما قاد إلى عجز الدول العربية عن الدخول في ركاب الحضارة والتقدم. وبهذا المعنى يصبح الكيان الصهيوني هو النموذج والمفاعل المقرر في نشوء الفكر المتطرف بنسخه المتعددة الراهنة. والحقيقة أنّ سياسة التهجير واقتلاع الجماعات المغايرة طائفياً ودينياً التي انتهجتها "داعش" وغيرها هي ممارسة ذات مرجعية إسرائيلية لا مجال للشك في مصدرها ومنبتها.
1 في المائة
يشكل الفلسطينيون المسيحيون نحو 20 في المائة من حجم تعداد الفلسطينيين حول العالم الذي يصل إلى ما يقارب 11 مليوناً و600 ألف أو 12 مليون فلسطيني، 4 ملايين و400 ألف منهم في الأراضي الفلسطينية، مليونان و700 ألف في الضفة الغربية، ومليون و700 ألف في قطاع غزة، ونحو مليون و400 ألف في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، بالإضافة إلى 5 ملايين و100 ألف يتوزعون في الدول العربية، و655 ألفاً في الدول الأجنبية بحسب الإحصائيات الصادرة عن مركز الإحصاء الفلسطيني عام 2012. لكنّ الواقع الحالي يشير إلى تحولات مخيفة إذ يشكل المسيحيون اليوم ما نسبته أقل من 1 في المائة فقط من تعداد سكان الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، بعدما أرغمهم الاحتلال والحصار على التوجه نحو بلدان أخرى لأسباب متنوعة تبدأ وتنتهي بالاحتلال الإسرائيلي، وما يمارسه من منوعات القهر على أبناء فلسطين بصرف النظر عن معتقداتهم. وتشير الإحصائيات الأخيرة إلى أنّ "عدد المسيحيين الفلسطينيين بات في حدود 40 ألف شخص في الضفة الغربية، وأقل من 5 آلاف في القدس، و1250 في قطاع غزة". وهو ما يؤشر إلى مخاطر بقاء الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، والحصار مفروضاً على قطاع غزة.
لكنّ بعض التقديرات الحالية، تشير إلى أنّ عدد المسيحيين الفلسطينيين المقيمين في الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية - نظرياً- يناهز خمسين ألف نسمة، موزعين بين الضفة الغربية والقدس التي يقطنها سبعة وأربعون ألفاً منهم، وقطاع غزة الذي يقطنه ثلاثة آلاف مسيحي فلسطيني. وقياساً إلى عدد السكان الفلسطينيين، يمثّل المسيحيّون ما نسبته 1.4 في المائة من جميع الفلسطينيين في الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية. في المقابل، يصل عدد المسيحيين العرب في إسرائيل إلى 117 ألف نسمة من مجموع 6.8 ملايين نسمة، أي نحو 1.7 في المائة من عدد سكان الدولة العبرية، فيما تصل نسبتهم إلى ثمانية في المائة من مجمل العرب المقيمين في إسرائيل منذ سنة 1948.
اقــرأ أيضاً
وفي مقارنة مع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، يبدو الهبوط كارثياً على المستوى الديموغرافي. ففي عام 1894، كان هناك، بحسب الإحصائيات العثمانية، 42.871 مسيحياً أو 13.3 في المائة من مجموع سكان فلسطين الذي كان يبلغ في ذلك الحين 322.338 نسمة. وفي عام 1948، كان عدد المسيحيين 145 ألف نسمة، أو ما نسبته 7.6 في المائة من مجموع السكان البالغ عددهم آنذاك 1.908.724 نسمة. وبعد أحداث تلك السنة، بقي نحو 34 ألف فلسطيني مسيحي في إسرائيل، بينما نزح نحو ستين ألفاً إلى لبنان والأردن خصوصاً، أي نحو 41.3 في المائة من المسيحيين الفلسطينيين. أما عدد المسيحيين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل الحرب العربية الإسرائيلية الأولى في 1948، فكان 51.063 نسمة، أي أكثر بقليل من عددهم اليوم، فيما تضاعف عددهم في إسرائيل أكثر من ثلاث مرات، منذ عام 1948، على رغم السياسات الإسرائيلية الرامية إلى استبدالهم بالمهاجرين اليهود في بعض المناطق ذات الرمزية بالنسبة إلى إسرائيل، وبخاصة في القدس حيث لم يبق اليوم سوى 37.5 في المائة من المسيحيين المقدسيين مقارنة مع عام 1944.
خريجون
يعيش 98 في المائة من المسيحيين العرب في مجمعات حضرية. وينتمي غالبية المواطنين المسيحيين إلى الطبقة الوسطى والطبقة الغنية أو الطبقة العليا، كما أنّ بعض العائلات الأكثر ثراءً بين المواطنين العرب في إسرائيل، هي عائلات مسيحية.
وتنقسم الطوائف المسيحية في الأرض المحتلة إلى أربع مجموعات أساسية: الكنائس الأرثوذكسية الخلقيدونية، الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية، الكنائس الرومانية الكاثوليكية (اللاتينية والشرقية) والكنائس البروتستانتية. وتشكل الطوائف الكاثوليكية أكبر طوائف المسيحيين في إسرائيل: 64.000 من الروم الكاثوليك، 12.000 من اللاتين و9.000 من الموارنة. ويبلغ عدد الروم الأرثوذكس 32.000 والبروتستانت 3.000.
يعتبر المستوى التعليمي لدى المواطنين المسيحيين العرب الأعلى في إسرائيل، فأعلى نسبة من الحاصلين على شهادة الثانوية العامة الإسرائيلية هي من أبناء المسيحيين، وهي أعلى مما هي عليه في الوسطين اليهودي والإسلامي. كما لدى المسيحيين أعلى نسبة من حملة الشهادات الجامعية بين المواطنين إذ إنّ 68 في المائة من المسيحيين العرب في إسرائيل هم من حملة الشهادات الجامعية. كذلك، تبلغ نسبة المسيحيين من الطلاب العرب المتعلمين في الجامعات الإسرائيلية 40 في المائة مع أنهم يشكلون 9 في المائة من المواطنين العرب في إسرائيل.
ولدى المسيحيين العرب أعلى نسبة أطباء وأعلى نسبة نساء أكاديميات في إسرائيل مقارنة ببقية شرائح المجتمع الإسرائيلي، كما أنّ وضعهم الاقتصادي- الاجتماعي هو الأفضل بين عرب 1948. ويملك المسيحيون العرب في إسرائيل عدداً كبيراً من المؤسسات من مدارس ومستشفيات وغيرها، وجزء من هذه المؤسسات خصوصاً المدارس هي الأفضل في الوسط العربي.
الفلسطينيون المسيحيون يشكلون ما بين 2.1 في المائة و3.4 في المائة فقط من تعداد سكان الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما يشكلون ما بين 6 في المائة و30 في المائة من مجمل تعداد الفلسطينيين حول العالم، وذلك لأنّ معظم مسيحيي فلسطين تم تهجيرهم قسرياً وطردهم من بيوتهم ووطنهم، بالإضافة إلى هجرة بعضهم بعد ذلك بسبب الاحتلال الإسرائيلي وجدار الفصل وأيضاً لأسباب اقتصادية. ويقدر عدد الفلسطينيين المسيحيين العرب الذين يعيشون في الشتات الفلسطيني بنحو 400 ألف نسمة.
معظم مسيحيي غزة يهتمون بتحصيل الدرجات العالية في العلوم المختلفة إذ يعمل 40 في المائة منهم في مجالات الطب والتعليم والهندسة والقانون. كذلك، تملك الكنائس الفلسطينية بمدينة غزة مؤسسات تعليمية وخدماتية وصحية وإغاثية ومهنية مهمة للمجتمع الغزي وتقدم خدماتها للمسيحيين والمسلمين من دون تمييز.
رمزية
وقد عانى الفلسطينيون المسيحيون من تراجع أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية. ومن الأسباب المباشرة لانخفاض نسبة المسيحيين شعورهم بالتخلي الدولي والعربي عنهم في محنتهم، لا سيما في غضون الأعوام الأخيرة عندما باتت القضية الفلسطينية خارج الاهتمام الرسمي والسياسي والشعبي العربي، وقد ترافق ذلك كله مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمصاعب المعيشية بفعل أشكال القهر والتمييز التي يمارسها الاحتلال عليهم من دون تمييز بينهم وبين المسلمين الفلسطينيين.
وللبقاء المسيحي الفلسطيني في الأراضي المقدسة، الموزعة اليوم بين إسرائيل والمناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة)، أهميته القصوى نظراً إلى أنّها كانت مسرح ولادة الديانة المسيحية ونشأتها. هذه الرمزية هي الدافع الأساسي لاستمرار تعلق المسيحيين الفلسطينيين، كما المسيحيين في كلّ أنحاء العالم، بتأمين استمرار الحضور المسيحي في الأراضي المقدسة، بالرغم من التجارب الصعبة التي مرت وما زالت تمر عليهم. وهذا ما يفسّر كثافة حضور المؤسسات الدينية والتربوية والاجتماعية المسيحية الكاثوليكية وغير الكاثوليكية في القدس وبيت لحم والعديد من المناطق الفلسطينية.
والمعروف أنّ المسيحيين الفلسطينيين كانوا في طليعة من تنبهوا لمشاريع الاستيطان اليهودية في الأراضي الفلسطينية، قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها. وبذلوا جهدهم وطاقاتهم وعلاقاتهم للتنبيه من خطر الاستيطان الصهيوني في فلسطين والهجرة اليهودية على أبناء فلسطين من مسلمين ومسيحيين. ولمع من بينهم مطارنة وقساوسة وكهنة كمقاومين للاحتلال الصهيوني، كما كانوا ضمن نسيج المواجهات الشعبية. وعليه، وبالرغم من التراجع الديموغرافي الخطير في أعداد مسيحيي فلسطين إلى جانب سياسات إسرائيل في تهويد الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية في القدس، تلعب الكنيسة دوراً وطنياً من خلال مواجهة سياسات مصادرة الأملاك وحث المؤمنين على التمسك بأرضهم وبلادهم، علماً أنّ إسرائيل عمدت إلى مصادرة جزء من الأوقاف المسيحية كما فعلت مع الأوقاف الإسلامية. كذلك، أثارت عمليات البيع والشراء لأوقاف البطريركية الأرثوذكسية ردود فعل غاضبة في الوسطين المسيحي والوطني العام، كما أنّ مخططات تجنيد المسيحيين في الجيش الإسرائيلي أثارت ردود أفعال منددة من قبل الأحزاب والمنظمات والشخصيات المسيحية الدينية والوطنية.
*باحث وأستاذ جامعي
فلسطين هي مهد الديانة المسيحية، ففيها نشأ السيد المسيح وأبلغ رسالته حاملاً صليبه على درب الجلجلة والآلام حتى دُقت المسامير في يديه ورجليه وطعن وهو على أعواد الصليب. والفلسطينيون المسيحيون هم تلك الخميرة الباقية في دياره بدءاً من مذود الولادة وحتى الرمق الأخير، وهم ينقسمون إلى أربع طوائف أساسية: الكنائس الأرثوذكسية الخلقيدونية، الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية، الكنائس الرومانية الكاثوليكية (اللاتينية والشرقية)، والكنائس البروتستانتية.
تعايش تاريخي
يتركز المسيحيون في فلسطين التاريخية، ولا سيما في منطقة الجليل، في مدينتي الناصرة وحيفا وفي عدد آخر من البلدات والقرى، حيث يعيشون مع غيرهم من المسلمين. ومع أنّ وجودهم بات نادراً في باقي المدن الفلسطينية التي وقعت تحت الاحتلال الصهيوني عام 1948، ما زالت هناك كنائس مسيحية في كلّ من يافا والرملة تدلّ على الحضور التاريخي للمسيحيين في تلك المناطق.
أما وجودهم في المناطق التي احتلتها إسرائيل في عام 1967 أي الضفة الغربية، فإنّهم يعيشون هناك في مدن القدس الشرقية وبيت لحم ورام الله حيث توجد الغالبية العظمى منهم، بالإضافة إلى بيرزيت والطيبة وعدد من البلدات والقرى الأخرى مثل الزبابدة في محافظة جنين، وعابود وعين عريك وجفنا في محافظة رام الله والبيرة، وفي رفيديا في نابلس.
أهمية الوجود المسيحي في فلسطين أنّه الامتداد التاريخي للمسيحية إذ انطلقت منها ثم انتشرت لتشكل أكبر ديانة في عالم اليوم. وقد رعى العرب المسلمون الوجود المسيحي في الأماكن المقدسة هذه، وكرست العهدة العمرية التي أعطاها الخليفة عمر بن الخطاب للبطريرك صفرونيوس عند فتح القدس عام 638 ميلادية حقوق المسيحيين وأماكن عبادتهم، وما زالت أوضح مثال لاعتراف الإسلام بالمسيحية والأماكن المسيحية المقدسة. ولعلّه ليس من قبيل الصدف أن يغادر الخليفة الثاني المدينة المنورة ويأتي إلى بلاد الشام مقدماً وعده وعهده لبطريركها وقساوستها بالحفاظ على حرياتهم الدينية والشخصية وكنائسهم وممتلكاتهم. لكنّ المسلمين الذين سكنوا فلسطين على تتالي الحقب لم يكونوا بعيدين عن هذه الروحية إزاء مواطنيهم المسيحيين، فتشكلت المدن والقرى من كليهما، وتشاركا آمالهم وآلامهم معاً على قدر المساواة. بالتأكيد، مرت على الوجود المسيحي في فلسطين حقب كتلك التي يعيشونها اليوم، لكنّ عمق جذورهم كان باستمرار يعيد استنباتهم في تلك الأرض. ولا شك في أنّ المجتمع الفلسطيني بكليته كمجتمع عربي واحد يواجه الآن خطراً وجودياً يدفعه نحو التماسك في وجه الاحتلال وسياساته التمييزية بين اليهود وغيرهم.
إنّ تقديمنا للوضع المسيحي في فلسطين مردّه الأساس أنّ الخطر التكفيري منشأه وأصله في المنطقة هو المشروع الصهيوني الذي تم زرعه في أرض فلسطين التاريخية كوطن قومي لليهود، وهو ما قاد إلى هذا المأزق الوجودي الذي يعانيه العالم العربي بدءاً بالمصير الذي تعرضت له الحركة القومية والديموقراطية العربية بفعل الحروب المتلاحقة التي شنتها عليها إسرائيل بدعم من دول الاستعمار الغربي (العدوان الثلاثي بالشراكة مع فرنسا وبريطانيا، وحرب عام 1967 وغزو لبنان بالرعاية والتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية) وحلقاتها التالية، ما قاد إلى عجز الدول العربية عن الدخول في ركاب الحضارة والتقدم. وبهذا المعنى يصبح الكيان الصهيوني هو النموذج والمفاعل المقرر في نشوء الفكر المتطرف بنسخه المتعددة الراهنة. والحقيقة أنّ سياسة التهجير واقتلاع الجماعات المغايرة طائفياً ودينياً التي انتهجتها "داعش" وغيرها هي ممارسة ذات مرجعية إسرائيلية لا مجال للشك في مصدرها ومنبتها.
في كنيسة المهد (Getty) |
1 في المائة
يشكل الفلسطينيون المسيحيون نحو 20 في المائة من حجم تعداد الفلسطينيين حول العالم الذي يصل إلى ما يقارب 11 مليوناً و600 ألف أو 12 مليون فلسطيني، 4 ملايين و400 ألف منهم في الأراضي الفلسطينية، مليونان و700 ألف في الضفة الغربية، ومليون و700 ألف في قطاع غزة، ونحو مليون و400 ألف في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، بالإضافة إلى 5 ملايين و100 ألف يتوزعون في الدول العربية، و655 ألفاً في الدول الأجنبية بحسب الإحصائيات الصادرة عن مركز الإحصاء الفلسطيني عام 2012. لكنّ الواقع الحالي يشير إلى تحولات مخيفة إذ يشكل المسيحيون اليوم ما نسبته أقل من 1 في المائة فقط من تعداد سكان الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، بعدما أرغمهم الاحتلال والحصار على التوجه نحو بلدان أخرى لأسباب متنوعة تبدأ وتنتهي بالاحتلال الإسرائيلي، وما يمارسه من منوعات القهر على أبناء فلسطين بصرف النظر عن معتقداتهم. وتشير الإحصائيات الأخيرة إلى أنّ "عدد المسيحيين الفلسطينيين بات في حدود 40 ألف شخص في الضفة الغربية، وأقل من 5 آلاف في القدس، و1250 في قطاع غزة". وهو ما يؤشر إلى مخاطر بقاء الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، والحصار مفروضاً على قطاع غزة.
لكنّ بعض التقديرات الحالية، تشير إلى أنّ عدد المسيحيين الفلسطينيين المقيمين في الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية - نظرياً- يناهز خمسين ألف نسمة، موزعين بين الضفة الغربية والقدس التي يقطنها سبعة وأربعون ألفاً منهم، وقطاع غزة الذي يقطنه ثلاثة آلاف مسيحي فلسطيني. وقياساً إلى عدد السكان الفلسطينيين، يمثّل المسيحيّون ما نسبته 1.4 في المائة من جميع الفلسطينيين في الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية. في المقابل، يصل عدد المسيحيين العرب في إسرائيل إلى 117 ألف نسمة من مجموع 6.8 ملايين نسمة، أي نحو 1.7 في المائة من عدد سكان الدولة العبرية، فيما تصل نسبتهم إلى ثمانية في المائة من مجمل العرب المقيمين في إسرائيل منذ سنة 1948.
خريجون
يعيش 98 في المائة من المسيحيين العرب في مجمعات حضرية. وينتمي غالبية المواطنين المسيحيين إلى الطبقة الوسطى والطبقة الغنية أو الطبقة العليا، كما أنّ بعض العائلات الأكثر ثراءً بين المواطنين العرب في إسرائيل، هي عائلات مسيحية.
وتنقسم الطوائف المسيحية في الأرض المحتلة إلى أربع مجموعات أساسية: الكنائس الأرثوذكسية الخلقيدونية، الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية، الكنائس الرومانية الكاثوليكية (اللاتينية والشرقية) والكنائس البروتستانتية. وتشكل الطوائف الكاثوليكية أكبر طوائف المسيحيين في إسرائيل: 64.000 من الروم الكاثوليك، 12.000 من اللاتين و9.000 من الموارنة. ويبلغ عدد الروم الأرثوذكس 32.000 والبروتستانت 3.000.
يعتبر المستوى التعليمي لدى المواطنين المسيحيين العرب الأعلى في إسرائيل، فأعلى نسبة من الحاصلين على شهادة الثانوية العامة الإسرائيلية هي من أبناء المسيحيين، وهي أعلى مما هي عليه في الوسطين اليهودي والإسلامي. كما لدى المسيحيين أعلى نسبة من حملة الشهادات الجامعية بين المواطنين إذ إنّ 68 في المائة من المسيحيين العرب في إسرائيل هم من حملة الشهادات الجامعية. كذلك، تبلغ نسبة المسيحيين من الطلاب العرب المتعلمين في الجامعات الإسرائيلية 40 في المائة مع أنهم يشكلون 9 في المائة من المواطنين العرب في إسرائيل.
ولدى المسيحيين العرب أعلى نسبة أطباء وأعلى نسبة نساء أكاديميات في إسرائيل مقارنة ببقية شرائح المجتمع الإسرائيلي، كما أنّ وضعهم الاقتصادي- الاجتماعي هو الأفضل بين عرب 1948. ويملك المسيحيون العرب في إسرائيل عدداً كبيراً من المؤسسات من مدارس ومستشفيات وغيرها، وجزء من هذه المؤسسات خصوصاً المدارس هي الأفضل في الوسط العربي.
الفلسطينيون المسيحيون يشكلون ما بين 2.1 في المائة و3.4 في المائة فقط من تعداد سكان الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما يشكلون ما بين 6 في المائة و30 في المائة من مجمل تعداد الفلسطينيين حول العالم، وذلك لأنّ معظم مسيحيي فلسطين تم تهجيرهم قسرياً وطردهم من بيوتهم ووطنهم، بالإضافة إلى هجرة بعضهم بعد ذلك بسبب الاحتلال الإسرائيلي وجدار الفصل وأيضاً لأسباب اقتصادية. ويقدر عدد الفلسطينيين المسيحيين العرب الذين يعيشون في الشتات الفلسطيني بنحو 400 ألف نسمة.
معظم مسيحيي غزة يهتمون بتحصيل الدرجات العالية في العلوم المختلفة إذ يعمل 40 في المائة منهم في مجالات الطب والتعليم والهندسة والقانون. كذلك، تملك الكنائس الفلسطينية بمدينة غزة مؤسسات تعليمية وخدماتية وصحية وإغاثية ومهنية مهمة للمجتمع الغزي وتقدم خدماتها للمسيحيين والمسلمين من دون تمييز.
رمزية
وقد عانى الفلسطينيون المسيحيون من تراجع أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية. ومن الأسباب المباشرة لانخفاض نسبة المسيحيين شعورهم بالتخلي الدولي والعربي عنهم في محنتهم، لا سيما في غضون الأعوام الأخيرة عندما باتت القضية الفلسطينية خارج الاهتمام الرسمي والسياسي والشعبي العربي، وقد ترافق ذلك كله مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمصاعب المعيشية بفعل أشكال القهر والتمييز التي يمارسها الاحتلال عليهم من دون تمييز بينهم وبين المسلمين الفلسطينيين.
وللبقاء المسيحي الفلسطيني في الأراضي المقدسة، الموزعة اليوم بين إسرائيل والمناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة)، أهميته القصوى نظراً إلى أنّها كانت مسرح ولادة الديانة المسيحية ونشأتها. هذه الرمزية هي الدافع الأساسي لاستمرار تعلق المسيحيين الفلسطينيين، كما المسيحيين في كلّ أنحاء العالم، بتأمين استمرار الحضور المسيحي في الأراضي المقدسة، بالرغم من التجارب الصعبة التي مرت وما زالت تمر عليهم. وهذا ما يفسّر كثافة حضور المؤسسات الدينية والتربوية والاجتماعية المسيحية الكاثوليكية وغير الكاثوليكية في القدس وبيت لحم والعديد من المناطق الفلسطينية.
والمعروف أنّ المسيحيين الفلسطينيين كانوا في طليعة من تنبهوا لمشاريع الاستيطان اليهودية في الأراضي الفلسطينية، قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها. وبذلوا جهدهم وطاقاتهم وعلاقاتهم للتنبيه من خطر الاستيطان الصهيوني في فلسطين والهجرة اليهودية على أبناء فلسطين من مسلمين ومسيحيين. ولمع من بينهم مطارنة وقساوسة وكهنة كمقاومين للاحتلال الصهيوني، كما كانوا ضمن نسيج المواجهات الشعبية. وعليه، وبالرغم من التراجع الديموغرافي الخطير في أعداد مسيحيي فلسطين إلى جانب سياسات إسرائيل في تهويد الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية في القدس، تلعب الكنيسة دوراً وطنياً من خلال مواجهة سياسات مصادرة الأملاك وحث المؤمنين على التمسك بأرضهم وبلادهم، علماً أنّ إسرائيل عمدت إلى مصادرة جزء من الأوقاف المسيحية كما فعلت مع الأوقاف الإسلامية. كذلك، أثارت عمليات البيع والشراء لأوقاف البطريركية الأرثوذكسية ردود فعل غاضبة في الوسطين المسيحي والوطني العام، كما أنّ مخططات تجنيد المسيحيين في الجيش الإسرائيلي أثارت ردود أفعال منددة من قبل الأحزاب والمنظمات والشخصيات المسيحية الدينية والوطنية.
*باحث وأستاذ جامعي