يعاني المسيحيون العرب من محنة عسيرة، يمكن وصفها بأنها تضع مصيرهم على بساط البحث، إن لم يكن بالنسبة للسواد الأعظم، فعلى الأقل لشرائح كبرى وقطاعات واسعة من أبناء الطوائف المسيحية التي ولدت وعاشت ومارست نشاطها البشري على هذه البقعة من الأرض وبين ومع سكانها. ويتجاوز العمر الزمني لهذا الوجود العشرين قرناً. بالطبع تطوّر الأمر من بداية المسيحية، إلى قيام الدولة الإسلامية بمسميات سلطاتها المتنوعة والمختلفة، وظل هذا الوجود راسخاً لا تهزه العواصف التي شهدتها المنطقة. الآن الوضع مختلف تماماً، والحريات الدينية التي لطالما اتسعت للجميع، بات هناك من يفصّلها على القياس الذي يراه، مقدماً تفسيراً متخلّفاً للفكر والممارسة الإسلامية التي احتضنت الجميع ممن ينتمون إلى الديانات السماوية الثلاث، وطاولت حتى أولئك الذين لا ينتسبون إليها.
قيل ويقال الكثير في تحديد العناصر والأسباب التي أدت إلى اللحظة المتفجرة الراهنة، وقُدمت تفسيرات عديدة لها، فمن قائل إنها من نتاج الاستبداد السياسي وغياب الديموقراطية وحرية الأفراد، إلى قائل إنها تعود إلى الموجة الراهنة من التكفير التي أباحت دماء المسلمين، وشملت بمدّها سواهم من مختلف الأديان والعقائد. لكن كل هذه التفسيرات وسواها لا تقدم تطميناً، فالأوضاع تسير بخطى سريعة نحو الإطاحة بمكونات المجتمعات العربية وتعددياتها العقائدية والثقافية، وفي المقدمة منها الوجود المسيحي بما فيه في مركز نشوء المسيحية نفسها أي فلسطين التي تواجه الاحتلال، ناهيك بسواها. كما صدرت العديد من الدعوات التي تلحّ على اعتماد سياسات للحفاظ على المسيحية في المشرق، منبهة من خطر فراغ المنطقة منها، وتأثير ذلك على توازنها الفكري والفلسفي والثقافي والمجتمعي.
ليس من وظيفة الملف الذي تفتحه "العربي الجديد" تقديم وصفة سحرية لسلسلة أزمات مركبة ومتراكمة تنتمي إلى عقود وقرون متلاحقة يتداخل فيها الوطني بالقومي بالدولي في عصر العولمة، والسياسي بالاقتصادي والاجتماعي والعلمي وغيرها. لكن ما تقوله عملية رصد المعطيات المتوافرة والتيارات التي تتضارب حول هذه القضية بالذات، يؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك، أن الأقليات المسيحية إذا أرادت أن تدافع عن وجودها، لا بد لها من أن تواصل لعب الدور الذي لعبته على امتداد قرون، ومن ذلك مساهمتها في النهضة العربية، وما ضخته من أفكار وطروحات، مع الإفادة من التطور العلمي والعملي لرسم خطوط بيانية حداثية تقدم حلولاً ناجعة للمجتمعات العربية المأزومة بأكثرياتها وأقلياتها معاً. وذلك عبر بناء عقد اجتماعي جديد قوامه اعتبار كل مكونات المجتمعات العربية مواطنين لهم حقوقهم وحرياتهم الكاملة بموجب المواثيق الدولية والشرائع السماوية، وعليهم واجبات تجاه دولهم ومجتمعاتهم.
أما بعض التفكير السائد الذي يحاول تقديم حلول للمسيحيين بوصفهم مسيحيين وأقليات فقط، فهو أقصر الطرق نحو تكريس غربتهم عن مجتمعاتهم.
إن لعب المسيحيين دورهم يكون بالعودة إلى الفكر النهضوي الحداثي وليس من خلال التقوقع على ذواتهم، وهو ما لا يحميهم ولا يحمي سواهم، بينما الحرائق تتابع اشتعالها دون هوادة وتأكل الأخضر البشري واليابس المادي.