وبينت المعطيات التي اضطر جهاز "الشاباك" الإسرائيلي إلى نشرها في وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن منفذي العملية الإرهابية، لم يكونوا مجرد أفراد ممن يعرفون "بفتية التلال"، وهي تسمية يطلقها المستوطنون والإعلام الإسرائيلي على المستوطنين الذين يشنون اعتداءات بشكل دائم ومنهجي على ممتلكات الفلسطينيين، بل إنهم تعدوا مرحلة العمليات الفردية إلى تنظيم أنفسهم في جماعة إرهابية، تتخذ من المدرسة الدينية في مستوطنة "ريحاليم" مقراً لها. كما عثر جهاز "الشاباك" على شعارات مناهضة للحكومة الإسرائيلية، وخط الصليب المعقوف على علم إسرائيلي مع شعارات مناهضة للصهيونية عموماً. وتوفر هذه المدرسة الدينية عملياً غطاءً يمنح أفرادها تأييداً شعبياً في صفوف المستوطنين، مع إبقاء خط دفاع لدى قادة المستوطنين بأن أحداً لا يعرف بدقة هوية هؤلاء الفتية، وأنهم "فتية جيدون وأخيار"، عادة تأتي أعمالهم "المرفوضة" عموماً رداً على عمليات فلسطينية أو انتقاماً ليهود قتلوا في هذه العمليات. إلى ذلك، كشفت التحقيقات وبيانات "الشاباك" حقيقة قيام كبار حاخامات مستوطنة "يتسهار" بإصدار فتوى تجيز "لشبان من المستوطنة" السفر يوم السبت وكسر حرمة السبت، للوصول إلى هؤلاء "الفتية" لإرشادهم إلى كيفية التعامل مع تحقيقات "الشاباك"، بما يؤشر عملياً على معرفة قادة المستوطنة وحاخاماتها بدور لهؤلاء "الفتية" في جريمة قتل شادية الرابي.
وتوضح نظرة سريعة إلى مطلع الثمانينيات أن موقف المستوطنين الحالي ليس مستغرباً، بالنظر إلى أن هذه التنظيمات الإرهابية بدأت منذ العام 1980 في مستوطنات الضفة الغربية، وحظيت بدعم وتأييد كاملين من المستوطنين ومن مجمل اليمين الإسرائيلي الذي تعامل بتساهل مع الإرهابيين اليهود، وغفر لهم جرائمهم ليستوعبهم في وظائف عالية.
التنظيم السري الأول
وظهر أول تنظيم يهودي سري في صفوف المستوطنين في الضفة الغربية، في الثاني من يونيو/حزيران 1980، عندما حاول أعضاء التنظيم تفجير سيارات ثلاثة من رؤساء البلديات في الضفة الغربية المحتلة، ممن كانوا محسوبين على منظمة التحرير الفلسطينية، وهم بسام الشكعة في نابلس (فقد ساقيه) وكريم خلف في أريحا (فقد ساقاً) وإبراهيم الطويل في البيرة. ونشط هذا التنظيم على مدار ثلاث سنوات كاملة نفذ خلالها عمليات تفجير مختلفة، بينها الاعتداء الدامي في العام 1983 على الكلية الإسلامية في الخليل، والذي أدى إلى استشهاد ثلاثة طلبة في الكلية. وتم القبض على أفراد التنظيم فقط في العام 1984. ومع أن التنظيم ضم 29 عضواً، إلا أن الاحتلال دان 15 فرداً فقط من أعضاء التنظيم، بينهم من أصبح لاحقاً أحد أبرز الصحافيين في إسرائيل حتى اليوم، حجاي سيغل، ومن تولى مهام كبيرة في تسريع وبناء المستوطنات، بما في ذلك عبر عمليات التزوير والنصب، زيئف حيفر. وقد أصدرت محاكم الاحتلال أحكاماً مخففة على أعضاء التنظيم، مع أنهم حاولوا تفجير المسجد الأقصى وتفخيخ خمس حافلات لركاب فلسطينيين.
ورغم هذه الأحكام، إلا أنه تم لاحقاً إصدار عفو رئاسي عن أعضاء التنظيم ليطلق سراح آخرهم في العام 1990. وشكل هذا التنظيم، والكشف عنه، نقطة فارقة في تعامل المستوطنين مع الإرهاب، بعد أن تبينت لهم قدرتهم، عبر لوبي ضغط سياسي، على الفرار من العقاب، ولم يردعهم عن تنفيذ عمليات لاحقة، وخصوصاً أن أعضاء التنظيم بغالبيتهم تحولوا إلى نجوم بارزة في عالم المستوطنات، ولدى ناشطي الأحزاب اليمينية. ولم يكن الكشف عن التنظيم ومحاكمة أفراده حاجزاً أمام ظهور تنظيمات مشابهة لاحقاً.
إرهاب فردي و"عشوائي"
ومع اندلاع الانتفاضة الأولى، أصبحت اعتداءات وعمليات المستوطنين ضد الفلسطينيين أكثر سهولة، لكونها تتم في ظل المواجهات والتظاهرات المتفجرة يومياً بين الاحتلال وقواته وبين أفراد الشعب الفلسطيني، وكان المستوطنون ينضمون فيها أحياناً إلى قوات الجيش، وفي بعض الأحيان كانوا يقومون بتنظيم عملياتهم، لا سيما في بلدات وقرى قريبة من المستوطنات، كما في مدينة قلقيلية، وتحت سمع وتغطية الإعلام الإسرائيلي وقوات الجيش. واشتهرت مثل هذه الاعتداءات بمشاركة أبرز قادة المستوطنين ميدانياً آنذاك، مثل دانيلا فايس وموشيه ليفنجر الذي كان أدين قبل الانتفاضة بقتل مواطن فلسطيني في سوق الخليل، ولم يحكم عليه سوى بالسجن لعدة أشهر.
وطيلة المدة الفاصلة بين اكتشاف التنظيم السري الأول وظهور تنظيمات لاحقة، كان حاخامات المستوطنين، ومرجعياتهم السياسية، خصوصاً في حزبي "المفدال" (أصبح اليوم "البيت اليهودي") و"هتحيا"، الذي زال من الخريطة الحزبية، يشددون على ما سمّوه حق الرد وضرب الفلسطينيين رداً على العمليات الفدائية، مستفيدين من أجواء الفاشية التي سادت في تلك الفترة. ولم يمضِ وقت طويل في تلك السنوات (1983ـ1984) حتى كُشف عن تنظيمين إرهابيين آخرين، هما "ت أن ت" (أي إرهاب ضد الإرهاب)، وما عرف بعصابة "لفتا". وحاول أعضاء هذه التنظيمات، وجلهم من المستوطنين، تنفيذ عمليات تفجير في المسجد الأقصى، وفي بلدات فلسطينية، مستفيدين من سطوع نجم حركة "أمنا جبل الهيكل" وزعيمها غرشون سلمون.
وبعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، اختفى أثر التنظيمات السرية. وكان اليمين الاستيطاني قد بدأ يشق طريقه إلى قلب الإجماع الإسرائيلي، على الأقل لجهة الاعتراف بوجوب الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية والمستوطنات الأولى، وأبرزها "عوفرا" و"يتسهار" و"كريات أربع"، وجميعها كانت تابعة للتيار الديني الصهيوني مقابل مستوطنات "علمانية ومحافظة بعض الشي"، مثل "معاليه أدوميم" و"أريئيل". ومع ذلك، كان الحاخامات داخل المستوطنات يحثون، في تلك الفترة، على عدم الاستكانة والخضوع، ومواصلة أعمال البناء وتوسيع المستوطنات بالاستفادة من حكومتي الوحدة الوطنية بين حزبي "المعراخ" (العمل) و"الليكود".
وخلال هذه الفترة، وقعت عمليات إرهابية فردية لم تكن خطيرة للغاية، وتمثلت في اعتداءات متفرقة، إلى أن وقعت مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، التي نفذها الإرهابي باروخ غولدشتاين، في رمضان 1994، وأسفرت عن استشهاد 29 فلسطينياً كانوا يؤدون صلاة الفجر. وفي الأيام الأولى للمجزرة، بدا مستقبل الاستيطان في الخليل على كف عفريت، لكن شمعون بيريز رفض مقترحات رئيس الحكومة الأسبق إسحاق رابين لإخلاء مستوطني الخليل خوفاً على حياتهم، ونقلهم إلى مستوطنة "كريات أربع"، فزاد ذلك من ثقة المستوطنين بأنفسهم، وبقوة اللوبي المساند لهم. ولاحقاً حظي المجرم باروخ غولدشتاين بإقامة نصب تذكاري له في "كريات أربع" تحوّل مزاراً لمؤيديه، فيما اعتبره المستوطنون وقادتهم السياسيون والدينيون بطلاً يهودياً. إلى ذلك، وثقت الكاميرا عضو الكنيست عن حزب "المفدال" وأحد أعتى المستوطنين، حنان بورات، وهو يوزع الهدايا على أطفال المستوطنين بفعل المجزرة، وهو يتمنى عيد بوريم "مساخر" سعيداً لشعب إسرائيل.
وشهدت أعوام 1994 و1995 و1996، وحتى قبل الانتخابات العامة في مايو/أيار 1996 وانتصار بنيامين نتنياهو، سلسلة لقاءات وحواراً مكثفاً بين قادة المستوطنات وبين كل من إسحاق رابين (قبل اغتياله) وشمعون بيريز في الأشهر التي شغل فيها منصب رئيس الحكومة ووزير الأمن بعد اغتيال رابين، وقبل سقوطه في الانتخابات المباشرة مقابل خصمه نتنياهو. وأثرت هذه الفترة في نظرة المستوطنين وحاجتهم إلى تنظيمات سرية إرهابية، بفعل خوفهم في حينه من استفزاز المجتمع الإسرائيلي ككل، بعد اتفاق أوسلو، وعدم تحويلهم إلى عقبة أمام مسيرة التسوية، ما قد يعزز تيار أوسلو داخل إسرائيل، خصوصاً أنهم رفضوا اتفاق الخليل الذي وقع عليه نتنياهو مع الراحل ياسر عرفات. وكان المستوطنون يخشون في السنوات الأولى بعد اغتيال رابين، في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1995، من تبعات أي اعتداء يمكن نسبه لهم أو لتنظيمات جديدة. وحدث التحول الكبير في هذا المجال بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000)، وأصبحت اعتداءات المستوطنين تُصور وكأنها عمليات دفاع عن النفس في وجه راشقي الحجارة من الفلسطينيين. وظلت الأمور على نيران هادئة حتى 2008، عندما بدأت عمليات عصابة "تدفيع الثمن"، التي أيدها كبار الحاخامات في صفوف المستوطنين، خصوصاً بعد أن كان هؤلاء أنهوا بفعل تقدمهم في السن عملهم كموظفين رسميين في سلك الدولة وتوالت فتاواهم الشرعية التي تجيز قتل الفلسطينيين، بمن فيهم النساء والأطفال وحتى داخل الأرحام. وصدرت هذه الفتاوى عادة في دروس السبت الدينية، ولم تكن تصل إلى الرأي العام الإسرائيلي إلا في أحيان متفرقة، مع الإشارة إلى أن مصدر الفتوى هو حاخام سابق، أو متقاعد من سلك الدولة، بالرغم من أنها تمول نشاط الكنيس والمدرسة الدينية التي يعطي فيها عظاته ودروسه الدينية. واشتهر في هذا المجال، الحاخام حاييم دروكمان، ودوف ليئور (الحاخام الرسمي السابق لمستوطنة "كريات أربع" المجاورة للخليل)، وهما لم يتورعا، حتى في ظل التعبئة ضد أي تسوية مع الفلسطينيين، عن التوقيع على بيانات تدعو لرفض الأوامر العسكرية التي تدعو لإخلاء مستوطنين أو هدم مستوطنات قائمة.
إلى ذلك، كانت المستوطنات في هذه السنوات مصدر فتاوى غنية تجيز قتل "الأغيار" (غير اليهود) والاعتداء على أملاكهم. وكان قادة المستوطنين ينسبون هذه الفتاوى إلى أنها "افتراضية" تهدف لإبداء رأي التوراة ولا تدعو بالضرورة للعمل، كما حدث بعد نشر كتاب "شريعة الملك" الذي يجيز قتل الأطفال والنساء ومَن في الأرحام، ووقع عليه الحاخام إسحاق شابيرا من مستوطنة "يتسهار"، ومدير المدرسة الدينية الاستيطانية "عود يوسف حاي"، وتعني "يوسف لا يزال حياً". وتواصلت عمليات "تدفيع الثمن" منذ العام 2008 وحتى اليوم. ومع أن الاحتلال فتح أكثر من مائة ملف في اعتداءات مختلفة، إلا أنه لم يقدم لوائح جدية وحقيقية إلا في ثلاث حالات فقط. وتواصلت عمليات "تدفيع الثمن" مع بدء الاحتلال نسبها إلى مجموعات "فتية التلال"، والحديث عن مجموعات من الشبان من داخل المستوطنات وخارجها ممن تسربوا من المدارس أو يعيشون ضائقة اجتماعية ويتمركزون في البؤر الاستيطانية غير القانونية، دون أي احترام منهم لمؤسسات الدولة وهيبتها. في المقابل، كانت المستوطنات الإسرائيلية تستوعب هؤلاء الفتية في مدارسها الدينية، وكانت تستعين بهم في التظاهرات ضد قوات الجيش لإحباط عمليات إزالة البؤر الاستيطانية.
وقد شهدت إسرائيل منذ العام 2014 تحولاً في تعامل أجهزة الأمن مع هؤلاء، علماً بأن هويتهم كانت دائماً معروفة للجيش وسلطاته، بل وحتى للجنود الذين كثيراً ما أمنوا لهم الأمن والحراسة خلال مواجهات يومية واعتداءات على الفلسطينيين وحقولهم، لا سيما خلال موسم قطف الزيتون. ففي العام 2014، استطاع "الشاباك" أن يبدأ بفرض الإبعاد عن أراضي الضفة الغربية لمجموعة من هؤلاء الناشطين، بينهم مئير إيتينجر، وهو حفيد الحاخام اليهودي مئير كهانا، وإبعادهم إلى داخل إسرائيل، وعندها انتقلت العمليات إلى البلدات الفلسطينية في أراضي 1948، وسط محاولات لإحراق مساجد. لكن التطور الأكبر وقع عندما قامت مجموعة من هؤلاء المبعدين بإحراق كنيسة "الطابغة" التاريخية في طبريا، واضطرار الاحتلال إلى إجراء تحقيق جدي، بفعل مكانة الكنيسة في الدين المسيحي، ودلالات الاعتداء عليها في العالم الغربي. وأفضت التحقيقات المكثفة إلى القبض على مجموعة من "فتية التلال"، تبين لاحقاً أن من بينهم حفيد كهانا وآخرين، شكلوا تنظيماً يهودياً باسم "التمرد"، يدعو إلى عدم الاعتراف بسيادة الدولة والعمل على تفجير الأوضاع وصولاً إلى حالة فوضى عامة تتيح إقامة "مملكة إسرائيل الدينية".
ووفقاً للمعلومات التي أدلى بها "الشاباك" أخيراً في مسألة التنظيم الذي ينسب له "الشاباك" قتل شادية الرابي، تبدو هناك قواسم مشتركة مع المجموعة الجديدة من المدرسة الدينية "بري هآرتس" في مستوطنة "رحاليم"، لجهة رفض سيادة الدولة وسلطتها، لكنها بينت أيضاً وجود تعاون بين هؤلاء ومستوطني "يتسهار"، وعموم القيادة الدينية والروحية للمستوطنين، التي طالبت نتنياهو علناً وفي رسالة مكتوبة، الأسبوع الماضي، بتخليص "هؤلاء الفتية" من براثن تحقيقات "الشاباك" ونقلهم إلى الشرطة، فيما كشف عن أن وزيرة القضاء إيليت شاكيد لم تكتف باتصال هاتفي مع عائلة أحد المعتقلين في التنظيم بل التقت أفراد عائلة معتقل آخر، خلافاً للقانون. ويعكس هذا كله حجم تأثير المستوطنات وما يروجه حاخاماتها على توفير خلفية فكرية ودينية أجازت وتجيز تفريخ هذه التنظيمات الإرهابية في المستوطنات الإسرائيلية من جهة، والوزن الانتخابي الحقيقي والمتخيل للمستوطنين عند ساسة اليمين الإسرائيلي من جهة ثانية.