المدفع والمطبعة

23 اغسطس 2019
(نابوليون أمام "أبي الهول"، لوحة لـ جون ماكامبريدج)
+ الخط -

تُلخّص هاتان الكلمتان المواقف الفكرية لكثير من العرب تجاه الدور الذي كان للاستعمار في نهضة المجتمع العربي أو في إعاقة هذه النهضة وقطعها عن مسارها الطبيعي. ثمّة من يمنح الفضل للمطبعة التي أحضرها نابليون بونابرت إلى مصر برفقة حملته نهاية القرن الثامن عشر، لا كآلة قدّمت الفرصة للعرب كي ينشروا مؤلّفاتهم على نطاق واسع، ويتعرّفوا إلى التقنيات الجديدة التي كان الغرب الأوروبي قد أنتجها، وحسب، بل كمجاز للعلم المعرفة والأفكار والتقنيات التي سوف تكون هي نفسها أداته الفريدة في الانتشار على نطاق جماهيري واسع، حين لم تعد حكراً على الأكاديميات المغلقة التي يصعب على عامة الناس الوصول إليها، بل صار بوسعهم الاطلاع، بأسعار زهيدة، ومجّاناً أحياناً، على هذا كلّه بفضلها.

صحيحٌ أنه لن يكون لها التأثير ذاته الذي تملكه في بلادها، غير أنها ساهمت في تغيير أحد وجوه الاتصال بين الشعب والمعرفة عموماً. هذا هو رأي المناصرين للفكرة التي تقول إن الاستعمار لم يكن شرّاً خالصاً، وإن المستعمرين ليسوا مسؤولين بالكامل عن انتكاس النهضة، وخاصة حين يتمكّن أنصار التنوير من وضع فولتير الذي ترمز له المطبعة في مواجهة نابليون بونابرت رمزاً للمدفع، أي فكر التنوير الذي تسرّب إلى المنطقة العربية بواسطة الجيوش، أو رغم أنفها.

ويبدو رئيف خوري أكثر المتحمّسين لفكرة التأثير الذي خلفته الثورة الفرنسية على الفكر العربي، وهو يعتقد أنه تأثير عميق، ويقدّم مسحاً معقولاً لآثار فكر الثورة على عدد من المفكّرين العرب في كتابه "الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي".

ولكن بعض هذه المواقف والمقولات تعزل الأفكار عن السياق الاجتماعي، أو قد لا تقدّر هذه العلاقة، ولا ترى أثرها الفاعل أو غير الفاعل ضمن تلك العلاقة. وقد تحوّل بعضها إلى انقسامات وخلافات غير قابلة للتفاوض بين المؤيّدين أو الرافضين من بين المفكّرين العرب؛ فقنابل المدافع التي اقتحمت الجغرافية العربية، لوت عنق التاريخ العربي بحسب كثير من المؤرّخين الذين يرون أن الحملات الأوروبية قطعت التطوُّر الطبيعي العربي، بحسب قوانين التاريخ، وأدخلت عناصر جديدة على كيانه، أدّت في رأيهم لتدميره.

على الرغم من مرور أكثر من قرن ونصف على اقتحام المستعمرين للبلاد العربية، فإننا لم نخرج من حقبة الاستعمار قط. وقد تغيّرت الصورة القديمة أيضاً اليوم؛ إذ لم يعد البونابرتيون المعاصرون يحضرون المطبعة برفقة المدافع، وما عادوا يعبؤون بما إذا كنا سنأخذ تقنياتهم وعلومهم. ولا تبدو الدولتان الأعظم في العالم اليوم، أميركا وروسيا، معنيّتَين بمسائل الحداثة، أو العصرنة، أو الأخلاق التي رافقت بناء النهضة في العالم الحديث، بل بمصالحهما وحدها. وقد استعاد المدفع وحده، منطق التدخّل وروح الاستعمار، ودُمّرت جميع القوى الاجتماعية المحلية التي كان من المحتمل أن تكون حاملة النهضة والتقدّم.

لهذا، سوف يبدو ذلك الحوار القديم عن دور المطبعة عقيماً، حين تَحرق نيران المدافع جميع أوراق النقاش في هذا الموضوع.

المساهمون